هيومن رايتس ووتش: الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً ضد المساليت.. وتحمل حميدتي وشقيقه عبد الرحيم وجمعة المسؤولية    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    أفضل أصدقائي هم من العرب" :عالم الزلازل الهولندي يفاجئ متابعيه بتغريدة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    تكريم مدير الجمارك السابق بالقضارف – صورة    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    أليس غريباً أن تجتمع كل هذه الكيانات في عاصمة أجنبية بعيداً عن مركز الوجع؟!    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    بأشد عبارات الإدانة !    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    السودان.. مجلسا السيادة والوزراء يجيزان قانون جهاز المخابرات العامة المعدل    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحزب الاتحادي العريق ... ضاع أم أضاعوه ؟!
في الذكرى 43 لرحيل الزعيم الخالد إسماعيل الأزهري ...
نشر في الصحافة يوم 06 - 09 - 2012

السير «قوين بل» آخر وكيل لوزارة الداخلية في بلادنا في العهد الاستعمارى حكى في كتاب له عن تجربة عمله في السودان لا سيما أنه آخر الاستعماريين الذين شهدوا طي أعلام المستعمر ورأوا راية السودان المستقل ترتفع في سماء الوطن عالية خفاقة . كتاب «قوين بل» هذا بعنوان «ظلال على الرمال» وقام بترجمته الى العربية الأستاذ بشير محمد سعيد ،وفي ختام الكتاب يقدم الكاتب البريطانى رصده وتحليله الخاص لشخص الرئيس اسماعيل الأزهري متزامناً مع استعراضه لذاك اليوم المضئ في تاريخ السودان.. يوم الاستقلال حيث يقول: «تم افتتاح غير رسمي للبرلمان، واقتصرت الجلسة على انتخاب رئيس للوزراء وزعيم للمعارضة. وكان رئيس الوزراء المنتخب هو السيد/ اسماعيل الأزهري، أما زعيم المعارضة فقد كان السيد/ محمد أحمد محجوب المحامي. وعلى الرغم من أني سمعت كثيراً عن السيد/ اسماعيل الأزهري بوصفه رئيساً لمؤتمر الخريجين العام ورئيسا لحزب الأشقاء المتطرف ورئيسا للحزب الوطني الاتحادي، فانه لم تتح لي الفرصة لانشاء صلات معه الا عندما صار رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية. وظلت علاقتنا منذ ذلك الوقت متصلة ويومية. وكانت نظاراته ذات الإطارات المذهبة تخفي وراءها شخصية دافئة القلب، كريمة المظهر، طموحة ومتماسكة. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى حاولت جاهداً أن أتقرب اليه وأصادقه وأحرز ثقته مما يمكنني من التأثير على مجرى الأحداث، ولكن السبيل الى ذلك لم يكن سهلاً .وأقر أن الأزهري لم يحاول أن يلقي تبعة أحداث مارس المؤسفة علينا، كما لم يتخذ أي اجراء ضد حزب الأمة أو الأنصار، على الرغم مما كان ينادي به البعض من ضرورة اعتقال السيد/ الصديق المهدي وعبد الله بك خليل وغيرهما من قادة ذلك الحزب. وكان لأحداث أول مارس وما يمكن أن ينجم عنها من حرب أهلية أثر واضح على أفكار الأزهري، اذ أخذ ينظر للأمور بواقعية، رغم الضغوط الشديدة التي ظل يمارسها عليه بعض المتطرفين من مؤيديه.حيث عُرف بالحكمة التي عالج بها أحداث مارس ، خصومه قبل اصدقائه ، حيث قال السير روبرت هاو حاكم عام السودان في ذلك الوقت، إنه كان رجلاً يتمتع بسعة صدر عالية وقدر عالٍ من التسامح، لذلك أشاد بالخطاب الذي بعث به الأزهري اليه طالبا تخفيف حكم الاعدام علي الذين ارتكبوا تلك الأحداث من القيادات الوسيطة من الانصار ، منهم علي فرح ، وعوض صالح ، حيث كان يري الأزهري الا يبدأ السودان استقلاله بحكم بالاعدام علي بعض الانصار. .كنت أقابله بحكم عملي كل يوم وأبقى معه ثلاثين دقيقة أقدم له خلالها ما لدي من حقائق ومعلومات، وأجيب عن أسئلته وأتلقى توجيهاته. كما كنت أعامله باحترام يليق به بوصفه رئيسا للوزراء. وأتت هذه المعاملة أُكلها اذ صار أكثر صداقةً ووداً لنا، ولكن كانت تنقصه صفة التسامح وتقدير الأمور تقديراً صادقاً. وأشير في هذا الصدد الى خطاب ألقاه في عيد الاحتفال بالاستقلال، وصفنا فيه بممارسة الطغيان طيلة سبعة وخمسين عاماً، وطمس السمات المميزة للشعب السوداني وانتقاص الرفاهية بين أهله لنضمن لحكمنا طول البقاء».
تلك كانت شهادة الاستعماري العريق السير «قوين بل» في حق الزعيم الأزهري فقد وصفه بدفء القلب والمظهر الكريم والواقعية ، لكنه - والفضل ما شهدت به الأعادي - عاد ليؤكد أن الأزهري كان يبغضهم كمستعمرين ويتهمهم بممارسة الطغيان وطمس سمات الشعب المميزة ، ولعل «قوين بل» أراد أن يذم الأزهري فمدحه من حيث لا يقصد.
لقد ظل الزعيم الأزهري وعلى مدى يتجاوز النصف قرن يمثل في وجدان الشعب السودانى رمزاً وطنياً نضالياً ، ويجسد منهجاً سياسياً اجتماعياً أحبته وتفاعلت معه الأمة فاستطاع أن يقيم جسراً من التواصل مع الناس قوامه الإنسانية والتواضع والدفء وطهارة اليد ، تراه - وهو رئيس - مع بسطاء هذا الشعب في أفراحهم واتراحهم ، مما جعلهم يبادلونه حباً بحب ، وآزروه وهو يقود معارك الوطن ضد المستعمر منذ مؤتمر الخريجين حين كون مع رفاقه من رموز الحركة الوطنية حزب الاشقاء الذى قاد معارك ضارية ضد المؤسسات الاستعمارية المشبوهة مثل المجلس الاستشاري لشمال السودان والجمعية التشريعية الى أن انتهت مسيرة النضال ضد المستعمر بالفوز الكاسح لحزبه - الحزب الوطني الاتحادى - بأول انتخابات في ديسمبر 53 ، اذ أحرز الحزب الوطني الاتحادي 51 دائرة من أصل 92 دائرة جغرافية، ونال كذلك ثلاث من دوائر الخريجين الخمس فاز بها مبارك زروق وابراهيم المفتي وخضر حمد بينما ذهبت الدائرتان المتبقيتان الى السيدين محمد أحمد محجوب وحسن الطاهر زروق ، مما أفضى الى أن يقود الحزب العريق البلاد نحو الجلاء والسودنة ثم الاستقلال المجيد .
لقد كانت النخب الوطنية بقيادة الأزهري في تلك الفترة تمثل «القوى الحديثة» ، فقد كان قوام تلك النخب طلائع المتعلمين من كلية غردون التذكارية بكل ما ملكوه من وعي وثقافة واطلاع ، وقد زاد انجاز الاستقلال من شعبية تلك النخب وأكسبها جماهيرية كاسحة هددت القوى التقليدية ذات السند الطائفي ، فكان من الطبيعي أن يستشعر هؤلاء رياح الخطر الذي يمثله الأزهري ورفاقه فعملوا على تقليم أصابع وأذرع تلك النخب ، ولكن الأزهري ببراعته وحذقه استطاع تخطي كل الفخاخ المنصوبة فقد كانت عينه على هدف واحد لا يحيد عنه وهو الاستقلال ولا شىء سواه . ان الدعوة الوحدوية مع مصر والتى استمد منها الاتحاديون هويتهم السياسية هي عنوان لبراعة الأزهري وقدرته الفائقة على المناورة السياسية وذلك بغرض تحييد النفوذ المصري والاستقواء به لمجابهة سطوة المستعمر الانجليزي ، وقد بان واتضح تحرر الأزهري من الارتباط السياسى بمصر عبد الناصر في مؤتمر باندونق الشهير «1955 » قبل الاستقلال حين أشار في خطابه في ذاك المؤتمر الى أن الديمقراطية هى المعيار الأوحد لاستقلال الشعوب وتحررها «في اشارة الى اتجاه الثورة المصرية نحو الحكم الشمولى بعد اقصاء اللواء محمد نجيب» ، وأصر ألا يمثل وفد السودان في اطار الوفد المصري بقيادة عبد الناصر وأخرج من جيبه وهو يقود وفد السودان منديلاً أبيض ليجسد علم البلاد ، وليرمز به الى أن السودان اختار المضي صوب الاستقلال .. وفي قاعة المؤتمر قال قولته الشهيرة « وفي باندونق توجدأمم تدعي انها مستقلة وهى ليست بمستقلة» وذلك في اشارة الى مصر التى كان يحتل الاستعمار البريطاني فيها انذاك قناة السويس.
وفي وقت كانت فيه العداوة بين طائفتي الانصار والختمية شديدة للغاية صاروا اكثر قرباً واكثر موالاة لمصر عبد الناصر وقد اغدقت عليهم كثيرا من الاموال ومنحتهم الدور والقصور وذلك بهدف اسقاط حكومة الأزهري الأولى وحتى قبل انجاز الاستقلال ، وذلك عبر عدة محطات نذكرها بايجاز ... اسقاط الميزانية في 10 /نوفمبر 1955 بأغلبية 49 صوتاً ضد 45 ويومها قدم الأزهري درساً ديمقراطياً رائعاً ومتقدماً في ذاك الزمان حين أعلن استقالة حكومته ولم يعد الا بعد أن عاد البرلمان وأجاز الميزانية وكان في مقدوره ان يفعل غير ذلك حيث التقى به عدد من قادة الجيش وطلبوا منه ا ن يستمر في الحكم والجيش سيكون سنداً له ولكنه اثر ان يحافظ على الديمقراطية الوليدة من الصراعات والخلافات وربما الحرب الاهلية. ويشهد له التاريخ بأنه كان ذو نظرة ثاقبة عندما احتوى أحداث أول مارس 1954 الدامية بقدر عالٍ من الصبر والحكمة والتحكم في الامور وذلك عندما تعرضت جماهير طائفة الانصار لموكب الرئيس المصري اللواء محمد نجيب الذي قدم للسودان لحضور افتتاح أول برلمان سوداني وهى أحداث كان يمكن أن تقود السودان نحو حرب أهلية كما شهد به السير «قوين بل » في صدر هذا المقال ، وايضاً حصافته في التعامل مع اندلاع أول تمرد في الجنوب في أغسطس 1955 والذى كان يراد استثماره من قبل الانجليز والمصريين لاعلان الانهيار الدستورى واعاقة توجه حكومة الأزهري نحو الاستقلال عوضاً عن الوحدة مع مصر أو الانضمام الى مجموعة ال «كومون ويلث» التى تدور في الفلك البريطانى ، وهناك لقاء السيدين في 3 /ديسمبر/1955 أى قبل شهر فقط من الاستقلال وكان الغرض الأوحد من هذا اللقاء هو اسقاط الحكومة واعاقة الأزهري وحزبه من قطف ثمار الاستقلال ، وهو لقاء وصفه السيد محمد أحمد محجوب بأنه أكبر كارثة سياسية في تاريخ السودان المعاصر ، وبالفعل أُعلن في يونيو 1956 وبعد ستة أشهر فقط من الاستقلال عن انشقاق حزب الشعب عن الحزب الوطني الاتحادي ليصبح الحزب المنشق واجهة سياسية للطائفة الختمية وتم اسقاط حكومة الاستقلال بقيادة الأزهري في 5 /يوليو 1956 لتتكون حكومة السيدين برئاسة السيد عبد الله خليل ، ويخرج الأزهري وحزبه نحو المعارضة وهو يصم أذنيه عن نداء بعض كبار الجنرالات في الجيش لفرض بقائه في السلطة ، ورافضاً حتى لحل البرلمان الذى أسقط حكومته والدعوة لانتخابات مبكرة وهو يذكّر الشعب وأنصار حزبه بأهمية الامتثال لقواعد الديمقراطية . وعندما جاءت الانتخابات الثانية تحت ظل حكومة السيدين في مارس 1958 استطاع الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الأزهري وبمعزل عن أي سند طائفي انتزاع 44 دائرة وجميعها من دوائر المدن والحضر وكانت الجماهير فيها تصوت وبأغلبية كبيرة للازهري بينما نال حزب الأمة 63 دائرة ولم ينل حزب الشعب أكثر من 26 دائرة ، وكان يمكن للاتحاديين كقوى حديثة في ذاك الوقت أن ينالوا أكثر مما نالوه ولكن حكومة السيدين عمدت الى تقليص دوائر المدن حيث الوعي والاستنارة والجماهير الاتحادية وزادت من عدد دوائر الريف معقل القوى الطائفية في ذاك الوقت وكان من نتائج هذه السياسة التي اتبعتها حكومة السيدين ان حصل حزب الأزهري على الاغلبية الكلية لأصوات الانتخابات ولكنه لم يحصل على اغلبية في مقاعد البرلمان. ومن المفارقات في هذه الانتخابات ان رئيس الحكومة المستقيلة حصل في دائرته في ام درمان ما يقارب على 10 آلاف صوت بينما حصل رئيس الوزراء الجديد السيد عبدالله خليل في دائرة «ام كدادة» في غرب السودان على حوالي 2500 صوت.. وهكذا جلس الحزب صاحب الاغلبية الشعبية في المعارضة في حين جلس الحزب صاحب الاقلية في كراسي الحكم .. وقد وصف المراقبون السياسيون في ذلك الوقت هذه الانتخابات بأنها انتخابات انتجت صورة مقلوبة !!.
ولم يكتف الأزهري بمجابهة المستعمر ومناهضة القوى التقليدية والاقليمية فراح يقاوم الأنظمة العسكرية الشمولية ومنها العهد العسكرى الأول «17 نوفمبر 1958 الى 21 اكتوبر 1964 » فمضى الى سجون الجنوب منفياً مع زعماء الحركة الوطنية ومن بينهم السيد محمد أحمد محجوب والمرحوم عبد الخالق محجوب ، ومات الزعيم الأزهري في سجون وزنازين النظام المايوى في 26 أغسطس 1969 فخرج الشعب السودانى كله متحدياً النظام ومشيعاً لجثمانه في أكبر تشييع شهده الوطن . ويكفي أن نشير هنا الى ما أورده الدكتور منصور خالد حول هذا التشييع حيث قال ان مجلس قيادة الثورة الحاكم يومها عقد اجتماعاً مشتركاً مع مجلس الوزراء للتفاكر حول تشييع الأزهري ، وكان الرأي السائد أن يُدفن الأزهري سراً ودون تشييع جماهيري فأنبرى لهم السيد اللواء خالد حسن عباس عضو مجلس الثورة ووزير الدفاع وهو يخاطبهم ثائراً بقوله : «لقد ظل والدي يبكي على الأزهري طوال الليل ... فان كنا لا نستطيع أن نمنع آباءنا من الحزن على رحيل الأزهري فكيف نمنع الشعب عن ابداء الحزن والوفاء والامتنان له ؟!» .
لقد عرفت الزعيم الأزهري وأنا محرر يافع في عالم الصحافة و كان يعاملنى بود وأحترام كأننى ند له ، و من سجاياه التواضع وخدمة الضيف بنفسه فكان يقوم بنفسه الى «الثلاجة» العتيقة بمنزله ليخرج زجاجة الحرية «وهو مشروب وطني متواضع » في ذاك الزمن ويقدمها لى مع طبق البلح الذى لم يعرف بيته فاكهةً غيره ، وأذكر عندما تم اعتقال الأزهري في يوم 25 مايو 69 في سجن كوبر قام وفد أمني يقوده وزير من أهل اليسار السياسي بجرد محتويات البيت آملين أن يصادروا منه الذهب والفضة والنفائس التى «استولى» عليها الأزهري من مال الشعب والوطن فلم يجدوا شيئاً مما كانوا يروجون له ، ولما اشتد الحر الخانق على الوزير اليسارى في صالون الأزهري طلب تشغيل «المكيف» فردت عليه زوجة الزعيم - أطال الله عمرها - وهى تقول ان بيت الزعيم الأزهري لم يدخله «مكيف هواء» قط ! وقد حكى لى الضابط الأمني الذي كان من ضمن هذا الوفد وكان صغير الرتبة يومها وهو يقول ان أثاث بيته المتواضع كان أفضل حالاً من الأثاث الذى وجدوه في بيت الأزهري . ولعل الحكاية التى رواها لي الراحل محمد ابراهيم نقد أمين عام الحزب الشيوعي انه كان مختبئاً في احد المنازل المهجورة في بيت المال وجد « كرتونة» تحتوى على كمية من الاوراق واخذ يقلبها قتلاً للوقت فوجد ورقة تحتوي على رسالة من الزعيم الي الراحل العم بشير النفيدي يطلب فيها قرضاً مقداره 35 جنيها من الراحل العم بشير النفيدي وقال: بعد ان خرجت من مخبئي ذهبت الى العم بشير النفيدي وعرضت عليه الورقة وقلت له ما صحتها ؟ وقال : نعم انها صحيحة وقال : يومها توجهت صوب منزل الزعيم ودخلت عليه في غرفة نومه و انا احمل ألف جنيه وقلت له : «يا سيادة الرئيس ما فائدة المال الذى بين أيدينا وأنت يا من جئتنا بالاستقلال لا تملك مثل هذا المبلغ الزهيد ؟ .. والله يا سيادة الرئيس ان لم تقبل مني هذا المبلغ فسيكون هذا فراق بينى وبينك» .
هذا هو الزعيم الأزهري وذاك هو حزبه الذى قام يسعى نحو الحرية والاستقلال والديمقراطية ، والذى ناهض النظم الشمولية ولم يتورط في أية مغامرة انقلابية كما تورط الكل ، وتلك هى سمات قادته من الرعيل الأول للحركة الوطنية الذين خرجوا من بيوت الطين ومن مساكن البسطاء والفقراء والشرفاء دون أن يدعوا حسباً أو نسباً ، لم يكن الفقر عيباً عندهم بل كان موضع فخرهم وأعتزازهم ولكن العيب كل العيب عندهم أن تمتد أيديهم الى مال الدولة ومقدرات الشعب والوطن ، فماتوا جميعاً فقراء شرفاء لا يملكون من الدنيا سوى القبور المتواضعة التى احتوت أجسادهم .
ولنا أن نتساءل في خاتمة هذا المقال : أين الأزهري وأين النخب الوطنية التى آزرته وأين الحزب الذى وهبوه عافيتهم وقوت أولادهم وعرقهم مما يحدث الآن في الساحة الاتحادية ؟ أين الحزب الذى كان يوصف بحزب الحركة الوطنية من هذا التكالب والتهافت والارتزاق السياسى والتطلع نحو السلطة والثروة الذى تمارسه بعض «الرموز» في معظم التيارات الاتحادية حتى أصبحت هذه الأحزاب مطية لبعض الباهتين الذين لا يملكون لوناً أو طعماً أو رائحة ، ول «جوكية السياسة» الذين ما من عاقل يجرؤ على مقارنتهم بالرموز الراحلة ؟ أين الحزب العريق، والاتحاديون تفرقوا أيدى سبأ في أحزاب هامشية معظمها بات مجرد «دكاكين» للتكسب في سوق السياسة ؟ أين الحزب التاريخى مما يحدث من سطوة وأحتكار للقرار السياسى وانفراد آحادى بادارة الحزب كأنه ميراث شخصى لا يملك أحد أن ينازع فيه ؟
لقد رحل الأزهري الى ربه راضياً مرضيا ولا نملك إلا أن نترحم عليه بقدر ما قدم لوطنه ولشعبه ... وأخشى أن يمتد آخرون بترحمهم الى الحزب العريق الذى أجدبت أرضه وخفت بريقه وما عادت سماؤه تزخر بتلك الأنجم الساطعة التي كانت تتلألأ في سماء السودان تملأ الافق الواسع العريض ضياءً وبهاءً .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.