فضل أهالي وادي حلفا الرافضون لعملية التهجير البقاء بالمنطقة لمسافة تبعد حوالى عشرة كلم من بحيرة النوبة بمدينة وادي حلفا إبان انشاء السد العالي في عام 1963م، بينما تم تهجير غالبية الاهالي الى منطقة خشم القربة شرقي السودان. وتعد تجربة سكان شمال السودان مع السدود ومنازعات الاراضي تجربة مريرة بعد ان ابتدروا قبل خمسين عاما مناهضة انشاء السد العالي الذي تسبب في تهجير الآلاف الى منطقة اخرى. ويبدو أن النزاعات حول الاراضي اطلت برأسها من جديد في مناطق الشمال بعد ان اندلعت اخيرا قضية نزاع حول اراضٍ زراعية في بلدة جمي جنوب مدينة وادي حلفا، وسيطر وزير الدولة الاسبق بوزارة الزراعة علي صادق عمارة على 20 الف فدان تؤكد جمعية جمي التعاونية امتلاكها لها وفقا للمستندات الرسمية الصادرة عن لجنة التصرف في الاراضي بالولاية الشمالية في عام 2006 التي قضت بايلولة الاراضي التي تقع ضمن اراضي دلتا الاطماء للجمعيات التعاونية في المنطقة وتبلغ مساحتها 64 الف فدان. وتقع بلدة جمي جنوب مدينة وادي حلفا، وتتميز بوجود اراض خصبة حول بحيرة النوبة، وتبلغ مساحتها 23 الف فدان تستغل في العمليات الزراعية التقليدية وفقا لتعاقد بين المواطن والجمعية. ويبلغ عدد اعضاء الجمعيات التعاونية بمنطقة وادي حلفا 18الف عضو ينتظرون مصيراً غامضاً بعد قضية النزاع الاخيرة بين الوزير والجمعية، اذ يرى غالبية الاهالي أن سلسلة نزع الاراضي من الجمعيات بدأت تلوح في الافق، خاصة في ظل ارهاصات عن استرداد الاراضي من الجمعيات. ويحاول اتحاد الجمعيات التعاونية بوادي حلفا الاستماتة في دفوعاته بعدم شرعية قرار الوزير الخاص بتجميد قرار تخصيص الاراضي للجمعيات الزراعية الذي اصدرته وزارة الزراعة الولائية، اذ يرى المستشار القانوني للجمعيات التعاونية مكي محمد علي أن قرار الوزارة لا يُلغى بقرار اداري نسبة لاتخاذ الاجراءات القانونية عبر القنوات الرسمية إبان تسجيل الاراضي للجمعيات التعاونية في عام 2006م، غير أن الوزير الاسبق نجح في استصدار قرار اداري بتجميد القرار الوزاري، واوقف سريان القرار ونقل آلياته الى المنطقة للشروع في النشاط الزراعي، بينما اكتفت الجمعية بتصعيد القضية إلى المحاكم، حيث ينظر قضاة المحكمة الادارية العليا في الخرطوم بعد أن استأنفت الجمعية في قضية الاراضي عقب إصدار محكمة وادي حلفا الابتدائية حكماً بالسجن والغرامة ضد الوزير الاسبق، وخفض لاحقا الى الادانة والغرامة، بيد أنه ظل متسمكا بأحقيته في الاراضي، وشرع في إجراء ترتيبات لوجستية داخل الأراضي، وقام بزراعة موالح في مساحة 7 أفدنة. وفي تطور لافت للأحداث عرض الوزير الأسبق علي صادق عمارة عبر لجنة قيادت عملية تفاوض بين الطرفين بتوجيه من والي الشمالية فتحي خليل، انشاء شركة تسمى جمي العالمية، بموجب عقد يسمح بامتلاكه 16 الف فدان وايلولة 7 آلاف فدان للجمعية مقابل إعمار شركة قرين ليكس التي تتبع للوزير حوالى 4 آلاف فدان لصالح الجمعية، لكن الجمعية رفضت العرض جملةً وتفصيلاً، واعتبرته «عرض من لا يملك لمن يملك». وأبلغ مستشار الجمعية القانوني مكي محمد علي مفاوضي اللجنة بعدم تنازل الجمعية عن أراضيها باعتبارها ثوابت نشأ عليها الاهالي في حماية أراضيهم . وقال المستشار القانوني للجمعية مكي محمد علي ل «الصحافة» إن الإجراءات التي اتبعتها الجمعيات قانونية شكلاً وموضوعاً بعد أن قامت لجنة التصرف في الاراضي باتاحة فرصة كافية لتلقي الطعون إبان عملية تسجيل الاراضي باسم الجمعيات التعاونية، وتأكدت من عدم وجود موانع تعيق تحويل الاراضي، مضيفا أن الاهالي ينتظرون انصافاً من المحكمة، بيد ان استطالة امد القضية ربما يحول آلاف السكان الى عاطلين بسبب توقف الزراعة في الاراضي المتنازع عليها. ويعيش أكثر من 40 ألف نسمة بمنطقة وادي حلفا على الزراعة في مناطق دلتا الاطماء، بالرغم من الطرق البدائية في العمليات الزراعية، ولا تتلقى اية دعومات فنية او مادية من حكومة الولاية، وينظر الاهالي لمشروع كهربة المشاريع الزراعية في منطقة وادي حلفا على انه حلم بعيد المنال، ويعتمدون في الطاقة الكهربائية على مولدات حرارية تعمل بالوقود بالرغم من تشغيل كهرباء سد مروي في عام 2009م الذي يبعد عن المنطقة نحو 400 كيلومتر. وكان الوزير السابق قد اشار في ندوة بمركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، الى وجود أراضٍ خصبة حول منطقة بحيرة النوبة، ودعا الحكومة المصرية الى الاستثمار في تلك الاراضي لكبح جماح استيراد الحبوب والغذاء، الا ان حديث الوزير السابق وجد استنكارا واسعا من قبل رئيس اتحاد الجمعيات التعاونية يونس عبد المجيد، وقال ان رعاياه في السودان كانوا أحق «بعطفه ونصائحه» بدلا من دعوة المصريين للاستثمار في اراضي الولاية الشمالية وتكرار سيناريو السد العالي الذي أرغم آلاف النوبيين على التهجير، بعد ان غمرت المياه مساكنهم ومزارعهم واضطروا الى مغادرتها. وتمسك عبد المجيد في حديثه ل «الصحافة» بعدم التنازل عن اراضي الجمعية بعد ان حصلت عليها بالقنوات الرسمية والقانونية، بالرغم من تغول الوزير السابق واعتدائه المتكرر على الاراضي، وإرسال فريق من شركته الخاصة الى المنطقة بغية حمايتها، وحذر عبد المجيد من التصعيد الذي ظل ينتهجه عمارة بتوطين العمال، في وقت يوجد فيه الاهالي داخل اراضيهم لحمايتها ايضا. وقال إن الوزير دعا الحكومة المصرية بشكل صريح للاستثمار في اراضي الولاية الشمالية في عام 2005م حينما أوفد اليها ممثلا للحكومة دون اخطار اهالي المنطقة، وزاد قائلاً: «عمارة نقل للمصريين تأكيدات بخلو المنطقة من المجموعات السكانية»، وتابع عبد المجيد قائلا: «يبدو انه الوزير لا يعطي اهمية للنوبيين بعد أن ترسخت في ذهنه التضحيات التي تأتي من جانبهم باستمرار من اجل ازالة المزاعم التي ظل يرتكز عليها الجانبان المصري والسوداني، بازالة الجفوة بين البلدين الشقيقين، والسماح بموجبها للمصريين بالاستثمار في اراضي الولاية الشمالية ومنطقة وادي حلفا بشكل خاص»، وزاد: «هل كتب على النوبيين تقديم اراضيهم قربانا للحكومة المصرية بحجة إزالة الجفوة» وتساءل: «ومتى ستزيل الحكومة المصرية الجفوة والمعاناة جراء تهجير النوبيين الى منطقة حلفاالجديدة في عملية تعتيم مصير مجموعة سكانية كاملة ترتكز على اقدم واعرق حضارة، واجلائها من وطنها الام الى مناطق مجهولة لم يألفوها، وتآلفوا معها لاحقا مضطرين بعد أن فشلوا في تحديد خياراتهم بتأنٍ ونزاهة». وقال إن رجل الاعمال أسامة داؤود عبد اللطيف خاطب جمعية دغيم التعاونية للسماح له باستثمار نحو200 فدان باعتبارها مرحلة اولية داخل منطقة وادي حلفا، ووافقت الجمعية، وتمكنت شركة دال الزراعية من اقامة مشروع محوري يمتاز بتقانات رائعة. وأضاف: «بالرغم من عضوية عائلته في الجمعية إلا أنه لم يستغل ذلك، وتمكن من الاستثمار عبر القنوات الرسمية» وتساءل: «لماذا لا يحذو عمارة حذوه» وأفاد بأن الجمعيات التعاونية تشجع الاستثمار وتعمل على تسويق اراضيها نسبة لشح امكاناتها المالية، مشيراً إلى أن الوزير الاسبق ظل يعطل اعمال الجمعية منذ عام 2007م، دون ان تحرز القضية تقدماً ملحوظاً وزاد: «لا نمل من طريق المحاكم لاثبات امتلاكنا للاراضي، ولكن اخشى ان تتحول القضية الى منحى آخر يصعب تداركه». ورفض مجلس تشريعي الولاية الشمالية تعدي الوزير السابق على اراضي الجمعية، واعتبره مسلكاً غير مقبول، خاصة أن الجمعية تمتلك شهادات البحث التي حصلت عليها من وزارة الزراعة الولائية، بعد أن أجاز المجلس قرار أيلولة الاراضي للجمعيات التعاونية. واكد رئيس المجلس التشريعي بالولاية الشمالية محمد عثمان تنقاسي ل «الصحافة» جاهزية المجلس لاسترداد حقوق الأهالي حال لجوئهم للمجلس عبر مذكرة عاجلة، واستنكر رئيس المجلس استيلاء الوزيرعلى أراضي الجمعية وتحويلها للمنفعة الخاصة. وتعهد بتوجيه لجنة الزراعة بالمجلس لايجاد مخرج للنزاع القائم بين الاهالي والوزير السابق، إلا انه رهن ذلك بانتظار ما ستسفر عنه الإجراءات القانونية التي اتخذتها الجمعية بتصعيدها للقضية الى المحكمة العليا بالخرطوم. إلا أن رئيس اتحاد الجمعيات التعاونية يونس عبد المجيد انتقد حكومة الولاية الشمالية لعدم مناصرتها لقضية الاهالي، وقال إن الجهازين التنفيذي والتشريعي ظلا يسجلان مواقف غير واضحة في معركتنا ضد عمارة حول نزاع الاراضي، ولم يتطرقا للقضية سلباً أو إيجاباً.