بعض الكتب تسلل الى الذاكرة وتركن فيها زمنا طويلا، ويخيل اليك أنك نسيتها تماما، ولكن فجأة تترآى لك من جديد، وكأنها تجيب عن تساؤلات تحيرك. لقد انقضت عشرة أعوام منذ أهداني الاعلامي المخضرم الدكتور ابراهيم دقش في يناير من العام 2002م، كتابه المعنون «تلك الأيام»، وقرأته حينئذ في جلسة واحدة، ثم اختفى ذلك الكتاب في ركن الكتب المهداة داخل مكتبتي المتواضعة، وان تخصص ركنا في مكتبتك للكتب المهداة اليك من مؤلفيها سنة حميدة تعلمتها من أستاذنا الجليل البروفسيور يوسف فضل حسن، فهذا الركن عنده يعكس اهتمامه بمؤلفي الكتب من جهة، ويعبر عن سعادته باتساع حركة النشر والتأليف في البلاد من جهة أخرى. عرفت الصحافة السودانية الدكتور ابراهيم دقش كاتبا صحفيا ضخما، وأحد الناشطين الفاعلين في المجال الثقافي والاعلامي في البلاد منذ مطلع الستينيات، لكن أجد نفسي اليوم في حالة تواصل مع مضمون ذلك الكتاب الذي يقول لنا في 180 صفحة «نحن ناس بنعيش حياتنا الغالية بالنية السليمة». في «تلك الأيام واحد من جيل الستينيات» نحن أمام رواية واقعية تحررية انقلابية في المفاهيم. رواية يقترب فيها دقش «الرباطابي القح» من طريقة السرد التي تعلمناها من صاحب الفتح الكلي في أدب السيرة الذاتية في السودان القديم الشيخ بابكر بدري. وقد تلمح تميزا لدقش يتمثل في حب التفاصيل التي قد تكون مملة أحيانا. ولعل حب التفاصيل عند دقش ناتج عن مصاهرته لأحدى الأسر العريقة في أمدرمان. ومعلوم أن حب التفاصيل عادة متأصلة لدى الأمدرمانيين. وقد نصحني صديق أمدرماني عريق جدا بعدم الحوار مع الأمدرمانيين في التفاصيل، لأنهم اذا دعوك الى تناول وجبة افطار من كسرة بملاح شرموط سيخيرونك بين ملاح الشرموط الأخضر أم الأحمر أم الأبيض أم «البيج». بايقاع سريع وحبكة روائية متصاعدة وبشخصيات تضج بالحركة، ولغة سهلة قريبة الى الأسلوب الصحفي، يعكس كتاب «تلك الأيام» أحداث الحياة السودانية خلال النصف الأخير من القرن الماضي، وليست تلك الميزة الوحيدة للكتاب، اذ يغوص من خلال النص في أعماق شخصيات بسيطة، تمثل الواقع دون رتوش أو مجاملات، فتحس وكأنهم عينات حقيقية تعكس بأمانة وبصدق ما يعتمل في صدر المجتمع السوداني بمدنه وريفه وقراه، وفي نفس الوقت تضعنا في قلب الأحداث. ويأتي هيكل الكتاب قريبا من شكل الحبكة السينمائية، فالأحداث تتوالى بسرعة وبايقاع قوي، أعتمد على تصوير الوقائع من خلال الكلمات والوصف، فيجعل القارئ يتخيل ويجسد الشخصيات والأماكن وكأنها شريط متحرك أمامه، لتصبح مطالعتها ممتعة وشيقة. وتمارس نقدا واعيا وايجابيا للأحداث الجارية وللمجتمع، كل ذلك من خلال حبكة فنية. ويدور جزء كبير من أحداث «تلك الأيام» في الريف، حيث عكس نضال العمال والمزارعين من خلال كفاح شخصيات الرواية على المستويين الداخلي والخارجي، أي الصراع الدموي مع توفير لقمة العيش والمعرفة للأبناء، والنضال أيضا ضد جزء كبير من العادات والتقاليد البالية التي تنخر بعظام الشعب، فيزيد ضررها أحيانا عن مساوئ الصراع الدموي. ولهذا فقد تم اختيار شخصيات «تلك الأيام» بعناية تامة، بحيث تمثل مختلف شرائح المجتمع. الشخصية المحورية في «تلك الأيام» هي والد الدكتور ابراهيم دقش، الذي بدا واضحا أنه يدرك قضية أسرته بأبعادها المختلفة، كان يناضل على جبهتين في سبيل توفير الحياة الكريمة «المرفهة» لأسرته من جهة، وفي سبيل اتاحة فرص التعليم لأبنائه حتى لا يقف الجهل حائلا دون تفوقهم في الحياة من جهة ثانية. انه اذن التحرر الداخلي والخارجي في آن واحد، والذي لا بد منهما لأجل سعادة أي أسرة. واضافة الى الاعتزاز الشديد الذي يبثه دقش لوالده في ثنايا «تلك الأيام»، فهو يستغرق في التفاصيل التي تبين أن طريقة الوالد في التربية اهتمت بغرس قيم الحياء والفضيلة في الأبناء لكي يهتموا باتباع الطرق الشرعية والاخلاقية في حياتهم. أما الجانب النسوي في «تلك الأيام» فقد تمثل بالعديد من الشخصيات. ورغم أن أبرزهن كانت والدة دقش التي تحملت الكثير من شقاوة وثرثرة الطفل ابراهيم دقش، الا أن البطلة الحقيقية هي حرمه الدكتورة بخيتة أمين التي تزوجها في حفل محضور شرفه الرئيس الراحل اسماعيل الأزهري، وهي التي تقف خلف الكثير من النجاحات التي يحققها دقش في الحياة. وقائع «تلك الأيام» ذات أهمية قصوى ولها قيمة تاريخية وتسجيلية. وقد تترك أثرا بالغا على تطور وازدهار النهضة السودانية ومدها بالحيوية والاستمرارية والغزارة. ويدعم هذا الرأي أن اسلوب الدكتور ابراهيم دقش يحتوي على ثلاثة عناصر وهي: أولا الأصالة في العواطف المعبر عنها. وثانيا الوضوح في التعبير عن هذه العواطف. وأخيرا اخلاص الكاتب المبدع في العواطف التي يعبر عنها. على أن المهم أن كتاب «تلك الأيام» يحافظ في جميع فصوله على عمق التناول للقضية المثارة وعلى الابقاء على العلاقة الشخصية والاحترام المتبادل. [email protected]