كنت أدرس في أحد المعاهد الفنية في ذلك الوقت، وكان عمري فوق العشرين، وكنت أذهب يومياً لتلك المدينة الساحرة لأنال حظي من التعليم، ولم أكن ميسور الحال، وكثيراً ما أعاني الشح والعوز وضيق اليد، إذ يعوزني ثمن تذكرة المواصلات، ووجبة الإفطار وكأس الشاي. لقد صممت أن أكمل هذه الدورة الفنية برغم المعاناة الشديدة، وما ألاقيه من ألم وحرمان وشظف في العيش يدفعني دائماً بطموح إلى مستقبل أفضل والأمل في عيش رغد. كنت أصل دائماً إلى المعهد الساعة الثامنة صباحاً بعد أن يضنيني الانتظار والوقوف على الرصيف، ومرارة الزحام. ولم أكن أطمع في الجلوس على كراسي الباص، وكان يكفيني، فقط، أن أجد مكاناً لموطئ قدمي. وفي الجانب المقابل للمعهد يوجد مطعم الإخلاص الذي كثيراً ما أتناول فيه وجبة الإفطار لقربه من المعهد، ولوجود بعض الأصناف التي تناسب جيبي، ولضيق الحال لم أجد أنسب من الفول والعدس. وكنت أجلس في هذا المكان الذي تنبعث منه روائح الشواء التي لا تقاوم، وأكثر ما أثارني وأسال لعابي رائحة السمك المقلي على الزيت. وكنت أكره السمك وأتقزز من رائحته، ولما كنت في العاشرة من عمري كنت أقضي طول نهاري في اصطياده، وبعد أن اصطاده أتركه لرفاقي، ولكن اليوم دوختني رائحة السمك المقلي، وبحثت كثيراً عن السر الذي جعلني أشتهيه بعد كل هذه السنوات من الكراهية، وعدم التصالح، هل لأنني لا أملك ثمن شرائه، أم أن لهذا المطعم سحره الذي جعلني اتخذ مثل هذا القرار!؟ الله أعلم. سألت باستحياء عن قيمة السمكة وجدتها تساوي نفقات ثلاثة أيام، شعرت بخيبة كبيرة وعدت إلى طلب الفول من جديد. وبعد أن أكملت الدورة ودعت المعهد ولم أنس أن أودع ذلك المكان العزيز، وفي نفسي ثمة أمل بالعودة، وصورة السمك المقلي لا تفارق ذهني، وهي ترقد على الصحن بين أوراق الجرجير والبصل الأخضر، وشرائح الطماطم، والليمون، والفلفل. لقد هاجرت بعيداً عن هذه المدينة تبعاً لظروف عملي الجديد الذي تطلب مني أن أهجر الوطن كلياً وقضيت هناك أكثر من عام، ولما امتلأت جيوبي بالدولارات قررت العودة لأرض الوطن، نعم عدت ويملأني الشوق لكل مكان مثلت في أرجائه فصلاً من فصول الذكريات. وبعد أيام من عودتي ذهبت إلى تلك المدينة الجميلة لقضاء بعض حوائجي، وما أن وصلت إلى ذلك المكان قفزت إلى ذهني عشرات الصور التي ارتسمت في ذلك المكان .. زحمة المواصلات، وتكدس الناس حول الباصات، مناداة الباعة والمتسولين، مشاغبات طلبة المعهد، ولعلني لم أنس مطعم الإخلاص، ورائحة السمك المقلي، فركت يدي ومسحت فمي وأنا أتحسس جيبي، اليوم لا بد أن أستمتع بوجبة السمك المقلي. أخذت أقترب من المطعم رويداً رويداً وأنا أطالع اللافتات التجارية: بنك الادخار، صيدلية الشفاء، عيادة الدكتور سمير، مطعم الإخلاص. لقد أحسست بالنشوة وأنا أقترب من المطعم، ولكن ثمة مفاجأة غير سارة كانت في انتظاري، المطعم مغلق بالأقفال الثقيلة، والجنازير الحديدية، وعلى قطعة من الورق المقوى كتب بإهمال: زبائننا الكرام عفواً المطعم مغلق. أحسست بشيء من الأسى والدهشة وأنا أتسمر في مكاني، لماذا هذا المطعم وحده مغلق؟ وجميع المطاعم مفتوحة؟ بالأمس كان يعوزني ثمن شراء السمكة الواحدة واليوم باستطاعتي أن أشتري المطعم كله، وبالرغم من كل ما أملك من نقود أفشل مرة أخرى في الحصول على ذات الطلب. كان بإمكاني أن أحصل على كل ما تهوى الأنفس من أي مطعم آخر لكنني قلت لكم من البداية أنا لا أهوى أكل السمك فقط أهوى اصطياده ولا أعرف السر الذي جعلني أصر على هذا الطلب الغريب، انصرفت وفي نفسي الكثير من علامات الاستياء وعدم الرضاء وتلك الرغبة التي لم تتحقق، وتعلَّمت شيئاً واحداً: ليس بالإمكان شراء كل شيء بالمال مهما حقر، أمسكت بالأقفال الثقيلة والجنازير الحديدة وهويت بها على الباب بعنف ومضيت أندب حظي. عدت بعد سنوات طويلة للمدينة وقرّرت أن أذهب إلى المطعم لعلني أجده مفتوحاً، أسرعت الخطى صوب المكان وأنا أمد أنفي الطويل لعلني أشتم رائحة السمك المقلي، ولكنني هذه المرة لم أجد أثراً لهذا المطعم. ووجدت بدلاً منه بناية ضخمة كتب عليها بالخط العريض فندق النيلين. وقفت لبضع دقائق غير مصدِّق ما أرى وأنا أحملق في نقوش البناية، وفي خاطري عشرات الأسئلة الحائرة.. ألقيت نظرة للوراء ونظرة للأمام وأنا أضرب كفاً بكف واختفيت في الزحام. الرياض