٭ المسافة بين برلين وريزنبيرج حوالى 120 كلم، الطريق يبدو متسعاً وسريعاً لعشرات الكيومترات، قبل أن يبدأ في الضيق حتى يصير في بعض المسافات مثله مثل طريق مدني الخرطوم، لكن الملاحظ وجود مداخل وجسور عديدة على التقاطعات مما يجعله رغم ضيقه طريقاً للمرور السريع غير الهياب أو الوجل. وريزنبيرج هذه تحتضن أحد المفاعلات النووية الألمانية التي كانت تستخدم للأغراض المدنية وعلى رأسها توليد الكهرباء التي ظل يشتغل عليها زهاء 70% من العاملين بالمفاعل، بينما هناك عمل أو أعمال أخرى تتعلق بالأبحاث، والتدريب يشتغل فيها بقية العاملين. ٭ مفاعل ريزنبيرج صار الآن أو كاد يصير مجرد ذكرى، وربما آل جزء من مبانيه إلى هيئة الآثار الألمانية باعتبار مرور أكثر من خمسين عاماً على إنشائه، ولذلك فإن الذاكرة مازالت حية لدى الألمان، فهم لا يبطشون بإرثهم أياً كان موقفهم الآن من ذلك الإرث، أما المفاعل، جسمه الرئيس وأعضاؤه الأخرى، فقد فككت تماماً وتم نقلها إلى محطة تخزين نفايات نووية مؤقتة في كرايزنبيرج ريثما يتم التوصل الى حل نهائي ووجود مكب آمن للنفايات النووية وعلى رأسها قضبان الوقود المحترقة وأجسام المفاعلات التي تعتبر الأكثر إشعاعاً. ٭ عملية التفكيك لذلك المفاعل استغرقت حتى الآن زهاء ال «15» سنة من العمل الوئيد والمثابر والدقيق، إذ أن التعامل مع «مفاعل نووي» ليس بالأمر الذي يترك للحظ أو حتى التوكل وحده، إذ لا بد من «عقل»، و«عقل» تلك قصة سنعرض لها في سياق هذه البرلينيات إن شاء الله. ٭ حاصل الحاصل عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، هأنذا أحاول الرسم بالكلمات، بعد طول انقطاع لظروف أكثر من قاهرة، نرجو أن تنقشع سحبها الداكنة عن سماء بلادنا آمين. المهم، تشرفت برفقة الأستاذة صباح محمد آدم، الزميلة الصحافية بجريدة «الأيام» وبدعوة جد كريمة من مؤسسة فريدريش ايبرت الألمانية في مقرها ببرلين، وعبر اختيار مكتبها النشط في الخرطوم، تشرفت بقضاء أسبوع من العمل العلمي الأكاديمي الإعلامي المتميز، والمشاركة في مؤتمر، كان عنوانه «الاستخدامات المدنية للطاقة النووية»، بينما كانت فعالياته الغالبة تدور حول «استخدامات أو مستقبل الطاقات المتجددة في ألمانيا»، وعطفاً عليها، بقية دول الاتحاد الأوروبي، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وللأسف، فإن الدراسات عن إمكانات السودان في مجال الطاقة المتجددة تبدو ضئيلة، مما حدا بأحد المحاضرين للاعتذار لنا «بوصفنا سودانيين» عن ذلك التقصير، وعلى أمل أن يتم ذلك لاحقاً، خاصة ان امكانات بلادنا من الطاقات المتجددة تبدو ضخمة للغاية، ويمكنها أي الطاقة المتجددة أن تحل محل انتاج الطاقة التقليدي من الفحم الحجري، الغاز، النفط، والطاقة النووية بالطبع، بل حتى انتاج الكهرباء من السدود والخزانات المائية يمكن التقليل من الاعتماد عليها بالاتجاه نحو الطاقات المتجددة التي تشمل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والحرارة الأرضية والطاقة الحيوية. مشاركة نوعية وتنظيم دقيق ٭ حفل المؤتمر بمشاركة نوعية، ومحاضرين ومحاضرات على درجة عالية من التخصصية، بحيث ان أحدهم لا يتحرج في الاعتذار عن بعض الأسئلة باعتبارها خارج نطاق تخصصه، مما يضفيت نوعاً من المصداقية على الاطروحات ونتائج الدراسات التي يستعرضها، أما على مستوى المشاركة فقد جاءت من تونس ممثلة في شخص البروفيسور نور الدين النيفر، السكرتير العام للجمعية المغاربية لتنمية دراسة الموارد البشرية ومسؤول الشؤون الاستراتيجية في السياسة الأمنية، والسيد عبد السلام النغازي، رئيس الجمعية والمسؤول عن أمن الانسان فيها، ومن مصر جاءت المشاركة في شخص د. علي الصعيدي، الوزير السابق للصناعة والتنمية التكنولوجية ووزير الكهرباء والطاقة السابق، وعضو المجموعة الاستشارية الدائمة للطاقة النووية بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن الأردن جاءت مشاركة د. مهندس معتصم زيدان، مهندس بحوث وأستاذ مساعد في قسم الادارة البيئية بجامعة الأميرة سميا، كذلك د. صيدلي باسل برقان مدير جمعية أصدقاء البيئة الأردنية، عضو مجلس الإدارة في هيئة تنسيق العمل البيئي والناشط في مجالات حماية البيئة والموقف ضد الطاقة النووية، ثم السيد جمال عيسى جريس قموه عضو البرلمان الأردني ورئيس هيئة الطاقة والموارد المعدنية، اضافة بالطبع للاستاذة صباح وشخصي من قطاع الإعلام السوداني. وشملت سلسلة المحاضرات والنقاشات عدة عناوين منها، سياسة الطاقة في ألمانيا «1» التي قدمها د. لوتس ميتس منسق مركز برلين لمنطقة قزوين والاستاذ بمركز بحوث سياسة البيئة بجامعة برلين الحرة، ومحاضرة التخلي عن التخلي النقاش السياسي في ألمانيا قبل فوكوشيما وبعدها، قدمها د. فيلب فينك من قسم الاقتصاد والسياسة الاجتماعية بمؤسسة فريدريش ايبرت، برلين، كما تناولت السيدة زيمونة مور مهندسة التقنيات النووية وأمن المنشآت بمعهد البيئة تناولت الجوانب القانونية والفنية والتقنية لاستخدام الطاقة النووية، وحلول التخلص من النفايات النووية. أما السيد نيكولاس فندلر من قسم السياسة بمنتدى الذرة الألماني فقد قدم ورقته بعنوان «تقنيات الذرة بوصفها تقنيات وسيطة ومستقبلية»، وتعتبر هذه المحاضرة هي الوحيدة تقريباً التي أبدى فيها مقدمها انحيازاً كبيراً لاستخدامات الطاقة النووية في الأغراض المدنية، بينما جاء ممثلون سياسيون عن حركة السلام الأخضر بأطروحة مناهضة تماماً لأطروحة السيد نيكولاس، وعن طريق السيدين توبياس مونشماير وتوماس بروبر، كما قدمت السيدة تانيا سمولينسكي أطروحة عن سياسة الطاقة من منظور النفايات، والسيدة تانيا من قسم القضايا الأساسية والسياسة المجتمعية بنقابة عمال الصلب، كذلك قدمت السيدة تينا نيتسر من مؤسسة فريدريش محاضرة عن نهاية الطاقة النووية، الآفاق العالمية والتطورات بعد فوكوشيما. أما السيد كريستيان هاي المدير التنفيذي بهيئة الخبراء بشؤون البيئة التابعة للحكومة الألمانية، فقد قدم محاضرة بعنوان: «هل سيكون مستقبل ألمانيا وأوروبا خالياً من الطاقة النووية؟ الطاقة المتجددة على المحك»، بينما تناولت السيدة سيفيرين فيشر من معهد الدراسات الأمنية والاستراتيجية «الأمن النووي من منظور أوروبي»، وختم السيد جاليل فانت بمحاضرة عن بدائل الطاقة النووية في بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ٭ يجدر ذكره أن جميع المحاضرات كانت باللغة الألمانية مع وجود ترجمة فورية الى اللغة العربية قام بها السيدان يوسف حجازي «ألماني من أصل فلسطيني» ود. جونتر أورت «ألماني الجنسية» ومتخصص في اللغة العربية. تحدي الطاقات هم ألماني: ٭ في افتتاحية العدد «3» 2011م من مجلة دوتشلاند التي تصدر عن دار نشر فرانكفورتر سوسيتيس ميدين المحدودة بالتعاون مع وزارة الخارجية الألمانية، أشارت إلى أن ألمانيا تعتبر الدولة الصناعية الأولى التي قررت التخلي نهائياً عن الطاقة النووية، وبدأت بالفعل في سحب أوائل المفاعلات النووية من الخدمة، وفي عام 2022م سيتم إغلاق آخر مفاعل نووي ألماني من جملة «17» محطة لإنتاج الطاقة الكهربائية تعمل بالطاقة النووية. ٭ اذاً، تعتبر ألمانيا هي الدولة الرائدة عملياً في انتهاج برامج التحول الى الطاقات المتجددة، ودار نقاش كثيف منذ اكثر من ثلاثة عقود من الآن حول الطاقة الخضراء، ومنذ السبعينيات من القرن الماضي نشطت حركة الخضر وأنصار البيئة، حتى كللت بإنشاء حزب سياسي حاز على مقاعد برلمانية وشارك في الحكومات الألمانية المتعاقبة. كما أن التوجهات الخاصة بالطاقة في ألمانيا تحاول المواءمة بين القوانين الصادرة عن الاتحاد الأوروبي وتحديداً القرار «2020 20» أي 20% تخفيض استهلاك الطاقة، 20% تخفيض الانبعاثات «غاز ثاني أكسيد الكربون»، 20% زيادة ترشيد استهلاك الطاقة، غير أن الأوضاع في ألمانيا تبدو أكثر تعقيداً نسبة لتعدد مستويات الحكم التي تبلغ «4» مستويات حسبما أشار د. لوتس ميتس، كما ان ألمانيا تستورد جزءاً كبيراً نسبياً من الطاقة، إذ أن ما لديها من نفط يشكل 3% فقط من حاجتها، و18% من الغاز. أما التحدي الماثل الآن فهو أن الطاقات البديلة من الصعب أن تنافس البنى التحتية القائمة، إذ يمكن تخيل حجم هذه البنى إذا عرفنا ان حوالى «600» مليار يورو قد انفقت في الماضي على المحطات النووية. ٭ صدمة فوكوشيما: ٭ تعتبر حادثة المفاعل النووي الياباني في فوكشيما في شهر مارس 2011م، بمثابة الصعقة الكهربائية لدى كثير من دول العالم التي تستخدم الطاقة النووية للأغراض المدنية، وبالذات في ألمانيا، إذ كانت الحكومة الألمانية قد قررت في وقت سابق من عام 2010م تمديد فترة عمل المحطات النووية لأجل جديد، بيد أن وقوع كارثة فوكوشيما قد أعاد الأمور إلى مسارها السابق، واتخذت الحكومة قراراً فورياً بإلغاء قرار التمديد، بل حددت عام 2022م لإغلاق آخر مفاعل نووي ألماني. وتم اقرار تشريع بذلك بوساطة البرلمان «البوندستاج»، خاصة أن ألمانيا تعج بالكثير من الفاعلين والناشطين في مجالات الطاقة، فهناك الأحزاب السياسية وعلى رأسها الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم، اضافة الى ست وزارات بما فيها المستشارية نفسها، اضافة الى وسائل الإعلام التي تهتم كثيراً بمجالات الطاقة، كما أن هنالك مستهلكي الطاقة، وقد بلغت نسب موارد الطاقة في عام 2011م النفط والغاز 50%، الفحم الحجري 25%، الطاقة النووية 9%، والطاقات المتجددة 11%، وبعد أزمة النفط هنالك تحول نحو الطاقات المتجددة وباتت منشآتها تزداد بمرور الوقت، وفي نفس التوقيت تتراجع نسبة استخدام الطاقات التقليدية، ففي عام 2009م مثلاً تم إنتاج «7000» ميقاواط من الطاقة الشمسية ارتفعت إلى «25» الف في عام 2010م، وهنالك مؤشرات مشجعة على أنه يمكن إيقاف الطاقة النووية في ما يتعلق بإنتاج الكهرباء فقط، فإن الوصول إلى 80% او 100% طاقات متجددة حتى عام 2050م باعتباره هدفاً، يحتاج الى استثمارات كبيرة وجديدة ضخمة في هذا المجال. علماً بأن تكلفة طاقة الرياح تبلغ «9» سنتات للوحدة الواحدة، ولكن عندما يتم تطوير هذا القطاع سينخفض الى خمسة سنتات فقط. ٭ تكنولوجيا الطاقات المتجددة ٭ واحدة من التحديات التكنولوجية التي تواجه إنتاج الطاقة البديلة، هو توفير مخازن لتوفير مصادر هذه الطاقات المتجددة، ومن تلك المخازن، انشاء «المحطة الهجين»، بين طاقة الرياح وطاقة الغاز، وقد تم توفير دعم مالي هائل لهذا القطاع بوساطة الحكومة، وتم تطوير قانون لأربع مرات، بحيث تم تحديد طريقة ادخال الطاقات المتجددة المنتجة في شبكة الكهرباء، وعلى أساس حصول صاحب الإنتاج على ضمان بشراء طاقته لمدة 20 ساعة في اليوم، كما هناك دعم جيد في مجال الطاقة الشمسية. ٭ التخلي عن التخلي ٭ أشار السيد فيليب فينك إلى قرار البرلمان الألماني في 30 يونيو 2011م بالتخلي كلياً عن الطاقة النووية بحلول عام 2020م، والنص على إغلاق «8» مفاعلات فوراً، وإغلاق ال «9» المتبقية تدريجيا، ويفرض هذا القرار تحدياً خاصاً لإيجاد بديل لإنتاج 21 ألف ميقاواط، ويشدد السيد فينك على الحاجة لاستثمارات جديدة في هذا المجال، اضافة خفض استهلاك الطاقة، واستيراد طاقة لفترة زمنية محددة، واستثمارات في تطوير طاقة إحفورية عالية الجودة. ٭ ما هي تبعات قرار التخلي عن الطاقة النووية؟ هنالك مناهضون لذلك القرار يتذرعون بأن أسعار الكهرباء سترتفع بالنسبة للمستهلك، كما أن المحطات التي تعمل على الطاقة الإحفورية تنتج انبعاثات بنسبة كبيرة، اما الرأي الآخر، فإنه يقر بالفعل بزيادة الأسعار لكنها ستنخفض بمرور الوقت، ولكن حتى هذه الزيادة، ربما ستكون بسبب الضرائب، كما أنها لن تتجاوز «2» يورو في الشهر تقريباً بالنسبة للكهرباء، وهذه تعتبر زيادة طبيعية. أما بالنسبة للشركات والمصانع فإنها تحصل على دعم من الحكومة وتخفيضات ضرائبية أو دعم لتشجيع استخدام الطاقات المتجددة، فإنها ستكون عرضة فقط لتذبذبات أسعار الكهرباء في البورصة، ويرى السيد فيليب أن التركيز في المرحلة الانتقالية سيكون على الطاقة الإحفورية، وبصدور قوانين الاتجار بأوراق الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي فإن المنظومة ستكون متوازنة. وهنالك «3» شروط أساسية يجب الوفاء بها حتى يتم الإغلاق الكامل لمحطات الطاقة النووية في ألمانيا، وهي: أولاً: بناء الشبكة بشكل سريع، إذ أن الشبكات الحالية مصممة للتعامل مع المنشآت التقليدية، فهناك حاجة لمد الشبكة من الشمال للجنوب لوجود معظم مزارع الرياح في الشمال، وكذلك مد الشبكة من الشرق للغرب لأن الشرق ينتج كميات أكبر من الطاقات المتجددة، بينما الغرب والجنوب يحتاجان لكميات أكبر من الطاقة الكهربائية. ثانياً: لا بد من وجود سياسة أوروبية منسقة بخصوص الطاقة، بسبب التكاليف الباهظة للطاقات المتجددة. ثالثاً: لا بد من وجود تنسيق بين مستويات التقسيم الإداري في ألمانيا.