- هي حالة اكتئاب حاد ، نشبت أظافرها في صدر انسان وحيد ، وباصابع باردة وقوية اخذت تضغط وتعصر قلبه حتي اخذ يجاهد النفس ليسترد علامة ( الحياة ) الوحيدة التي يعتمدها الطب القديم والجديد للتأكد من وجودها ، وهي تردد الانفاس . فتح باب منزله الرمادي اللون وخرج تجرجره اقدامه الي محطة المواصلات، وكانت الساعة التي تلتف حول معصمه كثعبان تشير الي السابعة والنصف صباحاً ، احس برزاز بارد يتساقط علي راسه ووجهه . رفع رأسه ونظر نحو السماء ولاول مرة منذ ان اشرق الصباح يكتشف ان السماء ملبدة بالغيوم . تساقط مطر خفيف ... اراد ان يقول لنفسه : ان السماء تبصق . سمع شاباً يضحك في عنفوان وكانه اوتار قيثارة وهو يقول لصاحبه الذي كان يحث الخطي بجانبه في حيوية :- - يوم جميل ابتسم لنفسه في مرارة مستلهماً من الجملة تهكماً ( سوفوكليسياً ) ليقول لنفسه بصوت خفيض - يوم مطير جميل ... ولابد أن تظهر ساحرات ( ماكبث ) ينذرن بالشؤم والعاصفة . وصل الي مكتبة بيع الصحف ، ونظر الي الصحف المتراصة الكثيرة بعناوينها الملونة الكبيرة ، واخذ يحرك عينيه المتوترتين هنا وهناك ... لاحظ ان احد العناوين في واجهة احدي الصحف يصرخ : - مسئول كبير يؤكد ان رائحة البنزين النفاذة والغريبة هذه الايام هي بسبب اصالة وتعتق آباره . همس لنفسه... - والملاريا امتحان رباني وليس بسبب تكاثر مصادر التوالد . نظر الي صحيفة اخري وقرا عنواناً كبيراً ومثيراً :- - ديانا تعود الي الحياة مرة اخري لانها كذبة ابريل القادم . اراد ان يهرش شعر راسه في حيرة ، ولكنه بدلاً من ذلك رفع صوته مخاطباً بائع الصحف : - صحي ( انسلاخ) الاتحاد العام حيكون في الضحية ؟ ضحك البائع بصخب وهو يجيب ويضغط علي الكلمات - الجو جميل ... الظاهر يا خوي ( البتاعة ) شديدة الليلة . نظر الي البائع وكأنه ينظر الي الفراغ ثم استدار بوهن كئيب وتلفت يميناً ويساراً ثم اجتاز شارع الاسفلت نحو موقف البص . فجأة انفجر فوق رأسه في صخب مخيف صوت فرقعة داوية .. رفع رأسه نحو السماء ، كان الرعد يقصف بعنف ثم انفتح صنبور السماء الي آخره واخذ المطر يتساقط بغزارة وعنف شديدين ... ركض وهو يشرق بالبلل نحو ( دفار ) توقف فجأة علي بعد مترين منه .. تعلق به وتسلل الي الداخل بحثاً عن موطىء قدم ، ووجد نفسه وهو يقف وسط غابة صغيرة من قامات متمايزة للركاب ، كانت بعض الانسام الباردة ولشغ المطر ? بفعل الريح ? يصلان الي ابخرة جهنم داخل ( الدفار ) وهو يتسلل لاهثاً الي داخل الجسر في طريقه الي الخرطوم . - سمع صوتاً يجادل في غضب : - كبري يرجف زي صحن الجلي ... مكعكع وجابوه خردة من الهند من زمن الانجليز ... لي حسه ما عاوزين يشوفوا ليهو طريقة . وارتفع صوت آخر : - ببنو في واحد جديد شايف العلب ؟ - وينها العلب ؟ - ديك يا اخي ... وسط الموية ... دي علب الكبري الجديد . - فجأة انفجر صوت صدام عنيف تخللته صرخة آدمية .. ارتج الكبري فجأة، وتوقف ( الدفار ) والحركة من امامه ، وخلفه في عنف مخيف . صرخ رجل بصوت اقرب للبكاء - الكبري عاوز يقع وهنا لم يتمالك الشاب صاحبنا نفسه ورفع صوته جهوراً وهو يضغط علي الكلمات - طبعاً عاوز يقع ... وفي يوم اجمل من ده يقع فيهو الكبري ... شوفوا الغيم...والرزاز ... والنسيم المكندش ده . فجأة انفجرت عنه غابة الناس التي تحيطه داخل ( الدفار ) اصبح صاحبنا كممثل وحيد وسط المسرح تماماً واخذت عيون الجلوس والوقوف من الركاب تتابعه في توجس ورعب وكأنه حامل النبوءة بالكارثة التي سوف تقع الآن لا محالة . واستمر صوته وهو لا زال يضغط علي الكلمات لتأكيدها - هو انتو قايلين الكبري ده خالد ؟ ولا منتظر يوم القيامه ؟ صواميلو الوقعت في الموية اكتر من صواميلو الفيهو لسه ... وعلبو تعبت من السيل ...وحديدو بس عايز هزة شديدة ... و... صرخت امرأة تقاطعه : - اسكت يا غراب الشوم ... القالك الكبري داير يقع منو ؟ ثم ترامي صوت آخر : - ده حادث .. والكبري برجف كده ... عشان الحركة كلها واقفة فوقو ... - حادث ؟ ... حادث بتاع شنو ؟ - سامع واحد بقول المجنون العريان صدمتو عربية ... ومات ... - الحمد لله ... مجنون ما بخجل ... كل يوم قاطع الكبري عريان زي يوم أمو ولدتو - ده الجاب النحس للبلد ... ومخلي الأسعار تزيد - والكهرباء تقطع - والموية برضو - ده المحق علينا الجنيه السوداني - ورافع الدولار - طلب الفول بالجبنه ... بقي تلاته جنيه بالجديد وقبل ان تتداعي اصوات الركاب اكثر ،صرخ الشاب كحيوان اصابته طلقة بندقية في عنقه . - لا هو ما السبب ... وما ممكن يموت قفز من الدفار الي اسفلت الشارع بحيوية لا تشبه وهنه واكتئابه، واخذ يخلع ملابسه ويصرخ كذئب بري ... بعدها اصبح عاٍر كما ولدته أمه ... ثم اخذ يركض علي ( افريز ) جناح الكبري وهو يصرخ بعنف ويبكي ... عندها كانت حركة المرور قد اخذت تتحرك وتنساب ببطء داخل الجسر والناس ينظرون من خلال زجاج السيارات ونوافذها ، ومن بين قضبان الدفارات الي الشاب العاري وهو يركض ويصرخ ويبكي . وداخل عربة تساءل شاب وهو ينظر الي المجنون في حيرة . - مش قالوا المجنون العريان صدمتو عربية حسه ومات ؟ - يمكن ده اخوهو ... او صاحبو .... طالما بصرخ ويبكي كده ومرت لحظات صمت قبل ان يسأل الشاب السائق مرة اخري : - المجانين العريانين بقوا كتيرين كده ليه ؟ ورد السائق بانفعال اقرب للصراخ - عشان القيامة قامت ... في زول يوم القيامة بجي لابس هدومو ؟ ثم بصق من نافذة السيارة ولا زال صوته منفعلاً - هو في قيامة اكتر من النحنا فيها دي ؟