استعير هذا العنوان من كتاب المؤرخة والأكاديمية الراقية د. فدوى عبد الرحمن علي طه «كيف نال السودان استقلاله»، مع تغيير طفيف حسب الحاجة. عندما نتحدث عن الخدمة المدنية لا بد أن نرجع قليلاً للوراء، أي إلى عهد الاستعمار عندما لم تكن الخدمة المدنية أو قل الخدمة العامة تهتم بالمسؤوليات المعضلة، ولا بتطبيق مستويات الادارة المتقدمة، بل كان كل اهتمامات القائمين على الحكم الحفاظ على القانون والنظام في البلاد، وعلى دور الادارة الأهلية.. وكان هناك أيضاً اهتمام بالخدمات الصحية والتعليمية والمواصلات.. كل ذلك في حيز ضيق ولكنه يمتاز بالجودة. ولم يكن نشر التعليم على المستويات العليا من أولويات الحكم، بل كان فقط لتخريج موظفين لملء الوظائف الدنيا، ومعلمين للعمل بالمدارس الأولية. ثم جاء التوسع في التعليم لاحقاً وبطيئاً وتدريجياً، وكان المستعمرون هم الذين يشغلون الوظائف العليا من تنفيذية وتشريعية وخلافه. وبدأت أوضاع الخدمة المدنية في السودان تتحسن تحسناً واضحاً قبل الاستقلال بفترة وجيزة، وذلك عام 1951م عندما كونت لجنة لوضع قوانين للخدمة، وهي لجنة MILLS COMMISION إذ قامت بتقسيم الخدمة العامة لثلاثة أقسام: 1- القسم الاداري المهني لاستيعاب الخريجين لملء الوظائف العليا لاحقاً، بعد تدريبهم وتدرجهم في السلم الوظيفي. 2- القسم شبه المهني والفني لخريجي المدارس الثانوية والفنية القليلة التي كانت موجودة في ذلك العهد. 3- القسم الكتابي للقيام بالوظائف الكتابية والنمطية. وأسست بعد ذلك في عام 1954م هيئة الخدمة العامة قبل الاستقلال بعام واحد، لتهيئة السودانيين لتولي الحكم الذاتي لدولتهم الوليدة.. وكان من أهم أهداف الهيئة مراعاة الجدارة والكفاءة لملء الوظائف ولحماية العاملين بالخدمة العامة من التدخل السياسي.. وقد نجح هذا المخطط بدرجة عالية خاصة أيام الحكومة الديمقراطية الأولى. ولكن كانت المشكلة انه لم يسبق أي تدريب أو تنمية للقوى العاملة، مما جعل الحكومة تعتمد بدرجة كبيرة على الخبرة الأجنبية في أن تتدخل في كل المشروعات التنموية الكبرى، سواء أكانت اقتصادية أو اجتماعية. ومع ذلك فإن البعثات الخارجية تضاعفت لنيل التخصصات والتدريب والدرجات العليا. والطامة الكبرى بانحدار الخدمة المدنية جاءت عند تولي حكومة مايو.. حيث جُردت لجنة الخدمة العامة من كثير من مهامها، وهيمنت الحكومة الجديدة على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأعلنت أن الاتحاد الاشتراكي يمثل الحكومة السودانية، وأصبحت السيطرة على الخدمة المدنية في أعلى مستوياتها في يد رئيس الجمهورية من تعيين وفصل وترقية وخلافه، خاصة بالنسبة لكبار الموظفين والتنفيذيين.. وكل ما تم من إجراءات على يد رئيس الجمهورية لم يكن على أسس مهنية صحيحة، بل سياسية بحتة جانبها التوفيق، وانتجت عواقب وخيمة أضرت بالخدمة المدنية. وهنالك حقيقة لا بد من ذكرها، وهي أنه بالرغم مما حدث من ممارسات في عهد مايو لم يكن موضوع التمكين هو المسيطر على عقول القائمين بالحكم، بل كانت شهوة السلطة وتصفية الحسابات هي شغلهم الشاغل.. ولم تكن هنالك دراسة أو تخطيط للتمكين الكامل كما يحدث الآن للاستيلاء على السلطة والثراء مدى الحياة.. حيث أصبح التخطيط بداية من التعيين في الخدمة العامة ليكون لأصحاب الثقة حتى بين الخريجين الجدد، وإبعاد كل من تحوم حوله شبهة بعدم الانتماء أو حتى حسب النظام الجديد.. ونتج عن ذلك ان وصل الانحدار إلى أسوأ مراحله وبسرعة رهيبة.. وكان الهدف للتمكين مدروساً ومخططاً من أشخاص نالوا أعلى الدرجات العليا أكاديمياً، وذلك دون أن يكون هنالك تخطيط للقوى العاملة أو وصف أو تحليل للوظائف لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ولكن ما تم كان بطرق عشوائية لاستقطاب من يريدون استقطابه وابعاد من لا يريدون.. وصاحب هذا بالطبع التخبط وسوء الأداء وغيره. ولم تكن هنالك رقابة على الوحدات الحكومية المختلفة، بل كانت تقوم بالتعيين حتى في الوظائف الحساسة التي تتطلب كفاءة وخبرة معينة، دون ضوابط أو مرجعية للاختيار الأكثر تميزاً للتعيين. أما لجنة الاختيار فقد انتهى دورها، وذلك بنقل أو فصل كل العاملين واستبدالهم بأناس لا يملكون كفاءات أو خبرات من سبقوهم.. وتغيير لوائح وأسس التعيين من مراجعة الشهادات والمقابلات الشخصية للتقييم الشخصي المناسب للوظيفة التي يراد ملؤها، واستبدال ذلك بأسئلة تعجيزية ومضحكة لإحباط المتقدمين، والقائمون بالتعيين يعلمون سلفاً من سينال الوظيفة.. وهذا يدل على أن التمكين قد بدأ منذ بداية السلم الوظيفي وتدرج حتى غطى المراحل في الخدمة المدنية، وعموماً الخلل الذي حدث في الخدمة المدنية منذ قيام النظام الحالي كبير ومتشعب كالاخطبوط.. والتخلص من سياسة التمكين ليس بالأمر السهل كما ذكر السيد الرئيس.. وهل يستطيع تغيير كل الذين عملوا بسياسة التمكين واستبدالهم بعقول نيرة جديدة تؤمن بسياسة الكفاءة والقدرات، وتعمل على خلق خدمة مدنية نزيهة معافاة؟؟ هذا سؤال تصعب بل تستحيل الإجابة عليه. * نائب وكيل سابق بديوان شؤون الخدمة