أعاد الفرنسيون الاشتراكيون الى مقاعد السلطة بعد اكثر من عشرين عاما من مغادرة «فرانسوا ميتران» الاليزيه، في خطوة سيكون لها ما بعدها على اصعدة داخلية وخارجية مختلفة، فالبرنامج الذي توج من اجله الناخبون هناك « فرانسوا هولاند» كرئيس رابع وعشرين لجمهوريتهم، يتقاطع مع برنامج الرئيس المنصرم نيكولاي ساركوزي تماما. فالرئيس الجديد يريد ان يضع حدا لتبعية بلاد «الغال» للسياسات الامريكية في العالم، ويعد بان اول مهامه الرئاسية ستكون سحب القوات الفرنسية من افانستان بمعزل عن الخطط الامريكية والاوربية في ذلك، وداخليا يقول انه لن يمضي في دعم سياسات الحكومة السابقة بشأن المهاجرين لانها ادت الى قسم الفرنسيين الى نصفين، كل منهما يعادي الآخر. ولكن الاجراءات التي يعتزمها بشأن زيادة الضرائب على الاغنياء ودعم مطالب العمال قد تذهب بفرنسا بعيدا عن مكتسباتها الرأسمالية، وربما تعيد النظر في مدى رغبة الناخبين في استمرار النموذج اللبرالي الراهن في بلادهم، ولان انتخاب «هولاند» يتزامن مع عودة «بوتين» الى الكرملين وصعود تيار القوميين في اليونان، فإن كل ذلك يطرح تساؤلات حول المحفزات التي دفعت بتيارات مناهضة للبرالية بالبروز في صدارة المشهد بمعقلها الحصين باوربا،وحول مستقبل اليسار الاوربي ايضا، ودور تياراته الناهضة في المرحلة المقبلة. ولان التساؤلات المطروحة تطرق كل الابواب، فإن حديث استاذ الفلسفة بجامعة النيل الدكتور بكري خليل، يذهب اولا الى وضع قائمة بالتأثيرات المحتملة لهذه المتغيرات على اوربا، فيقول ان صعود الاشتراكيين في فرنسا سيقدم دفعات قوية لقوى اخرى مماثلة خارج فرنسا، مشيرا ان الاشتراكيين يمتلكون استراتيجية خاصة في القضايا الاجتماعية الاقتصادية، وهي تبدو الآن اكثر جاذبية على ضوء اوضاع الاتحاد الاوربي الآن وازماته المتعددة، ويتابع الدكتور بكري خليل: الرئيس الفرنسي الجديد يدرك ذلك، لهذا قال اليوم انه يتوقع ان يحدث تغيير عام في اوربا اتساقا مع ما حدث في فرنسا، على ان خليل عاد ليؤكد ان ما جرى في روسيا واليونان امر مختلف، فما حدث في موسكو تبديل اسلوبي.. لان «بوتين» يتبادل في حقيقة الامر الكراسي مع «دميتري مديديف»، في اطار الحزب الواحد، معتبرا ان ما حدث في اليونان جزء من وضع دولي يتشكل، الا ان تأثيراته تبقى غير معروفة. وحول طبيعة ذلك التغيير في فرنسا وملاءمته مع التوجهات الرأسمالية الراسخة في اوربا والغرب عامة، يقطع استاذ الفلسفة بعدم وجود اية تقاطعات بين الاثنين، موضحا ان اليسار الديمقراطي في اوروبا ظل منذ الحرب العالمية الاولى، يتخذ موقفا متصالحا مع الرأسمالية ويتابع : هم لديهم توجهاتهم المستقلة داخل اوطانهم، وليسوا بأمميين، لا نملك ان نقول انهم احزاب متحالفة مع رأس المال، لانهم يمثلون شرائح تدعم الاصلاحات الاجتماعية المتوازنة، ويزيد « ولا نستطيع ايضا ان نقول ان هذا التيار يسار بالمعنى الاشتراكي الكامل، غير ان لهم تصورات لاصلاحات داخلية تذهب لمصلحة الفئات الاضعف في مجتمعاتهم». وربما تصدق تحليلات الدكتور بكري خليل التي جعلت من الاشتراكيين الصاعدين في فرنسا تيارا اصلاحيا اقرب لليمين منه الى اليسار، فقد هوجم ذلك التيار، عشية بلوغه السلطة، من الحزب الشيوعي الفرنسي وفصائل ماركسية اخرى تعادي هيمنة الرأسمالية،وهو ما قد يفسر لجوء الناخبين الى الخيارات الوسطى اي «الحزب الاشتراكي» في مواجهة تداعيات الازمات المالية التي تواجه اوروبا الآن. وهذا عين ما يقوله الدكتور عبدالرحمن أبوخريس من المعهد الدبلوماسي بالخارجية، لان الازمة المالية في فرنسا تحتاج لعلاج سريع وهو ما لا يتأتى ،حسبما يشير، الا بمشروع سياسي جديد يغاير مشروعات وخطط ساركوزي التي وضعت فرنسا على خط الازمة. ويرى ابوخريس ان الاشتراكيين في اوروبا عامة يملكون مشاريع اصلاحية مقنعة لانها تستند على دراسات معمقة للبيئات المحلية وتدفع بافكار جديدة متحررة من الهيمنة، بعكس الآخرين، مثل ساركوزي، الذين يرتبطون بالمشاريع الاممية ولا يملكون ان يسبحوا عكس الموجة، والنقطة الاخيرة كما يشدد الدكتور ابوخريس قد تصبح حافزا في تمدد هذا التيار الاشتراكي لبقية حكومات اوروبا. وربما يصح هذا ايضا فعلى اثر فوز «هولاند» على غريمه ساركوزي تحسست حكومات اوروبا مقاعدها، لان فرنسا الاشتراكية لن تكون متحمسة بالطبع للكثير من مشاريع الاتحاد الاوربي،وبخاصة قوانينه حول العمل والتأمين الاجتماعي والمعاشات،وربما سياسة فتح الاسواق الى الآخر والتي صوت ضدها الفرنسيون بالرفض من قبل. ولكن تأثيرات صعود اليسار الى قيادة فرنسا على قضايا منطقتنا تحتاج لبحث وتمحيص، بخاصة وان موقع فرنسا في مجلس الامن وفي قيادة السياسات الخارجية للاتحاد الاوربي، خول لها في السابق احداث الكثير من التأثيرات على الاوضاع في المنطقة والتطورات المختلفة في السودان تحديدا، وربما كان آخرها قرار مجلس الامن حول النزاع بين «الخرطوم»و»جوبا»، لكن كان دورها في قضية دارفور هو العلامة الابرز، لان باريس في عهد ساركوزي دعمت من تصعيد معالجة القضية دوليا وساهمت في خروج الكثير من القرارات والمواقف التي لم تعجب الخرطوم، ولان شعار الرئيس الجديد كان طوال الحملة هو « التغيير الآن»، فان استمرار ذلك الدور من عدمه يلقي بتأثيرات غير معلومة. استاذ الفلسفة بجامعة النيلين الدكتور بكري خليل يعود هنا ليقلل من فرص تغيير سياسة فرنسا تجاه المنطقة او السودان، لاعتبارات مختلفة منها ان مواقف الحزب الاشتراكي تاريخيا فيما يتعلق بالشرق الاوسط باكمله لا تبتعد عن تأثيرات « التيارات الصهيونية» المتجذرة في داخله،مذكرا بمواقف فرنسا ميتران ضد العراق في هذا الاطار، وثانيا لان الدول الكبرى، ومن بينها فرنسا، لها سياسات واستراتيجيات لا تتحول عنها، ولهذا فإن استاذ الفلسفة يتوقع ان لا يحدث وصول هولاند الى الحكم « تغييرا ملحوظا في سياسات باريس تجاه المنطقة»، بل على العكس فربما يمضي الامر باتجاه الاسوأ لان يمين الوسط في اوربا، كما يبين الدكتور خليل، تراجع عن الديغولية واقترب اكثر من المواقف التقليدية للاشتراكيين التي هي اقرب الى سياسات امريكا فيما يتعلق بالشرق الاوسط، ويضيف « الحزب الاشتراكي دائما اقرب الى المواقف المتطرفة في قضايا المنطقة، ودعمه للمواقف المتشددة ضد العراق يقف شاهدا على ذلك»، وربما لهذا لا يرجح استاذ الفلسفة ل» الصحافة» توجه باريس الاشتراكية الى احداث اي تغيير على مستوى سياساتها تجاه السودان في دارفور او العلاقات مع الجنوب،معتبرا ان التغيير الابرز، حتى في ذلك، يرتبط بنتائج الانتخابات الامريكية،ومؤكدا ان حكومة هولاند ستنصرف في المرحلة المقبلة الى مشغولياتها الداخلية وبرنامجها الانتخابي والى علاقاتها مع اوروبا. ولا يتفق الدكتور عبدالرحمن ابوخريس، المعهد الدبلوماسي لوزارة الخارجية، مع تأكيدات الدكتور بكري خليل في ان سياسية فرنسا لن تتغير تجاه السودان بعد وصول الاشتراكيين الى الاليزيه، مستندا اولا على تصريحات هولاند نفسه بالامس على ان هناك تغييراً كبيراً سيتم على اصعدة مختلفة منها سياسة باريس الخارجية، وثانيا على رغبة الناخب الفرنسي في التغيير، معتبرا ان اكتساح هولاند لساركوزي سببه الرئيس احساس الفرنسيين بأن ساركوزي سلب بلادهم قيمها وشغفها بالحرية، وضرب عرض الحائط بتقاليدهم المعروفة، مسلما اياه الى الناتو والامريكيين، ويؤكد ابوخريس ان قضية السياسة الفرنسية في الشرق الاوسط وافغانستان، كانت في قلب اهتمامات الرأى العام الفرنسي، وانها ظلت من دوافع ابعاد ساركوزي. لكن الدكتور عبدالرحمن يعود ليشير ان التغيير تجاه منطقتنا سيتم ببطء وبروية، وان على الخرطوم ان لا تتوقع تحولاتٍ كبيرة في الموقف الفرنسي الآن، وان عليها التفاعل بايجابية مع سياسة الاشتراكيين التى ستكون اكثر انفتاحا عليها في هذه المرحلة، ويتابع ابو خريس : التاريخ القريب يؤكد ان الاشتراكيين يتعاملون مع «الخرطوم» بموضوعية،وان ثمار ذلك كان معالجة قضايا مهمة مثل «كارلوس» و الصراع في «البحيرات» وغيرها.