٭ فعنوان الكتاب الذي صدر لمذكرات الرائد زين العابدين مثير للجدل والشكوك حول مايو نفسها التي يدافع عنها الكاتب تارة ويهاجمها تارة أخرى وذلك منذ أن اتخذ السؤال مدخلاً الى مذكراته (سنوات مايو خصب أم جفاف؟!) فتلك علامة استفهام كبيرة وضعها الكاتب واختارها.. فهل كان ذلك بمحض ارادته أم هنالك أشياء اخرى تعود بنا الى ما سبق ذكره عن صدور المذكرات في غياب كاتبها أو بالاحرى صاحبها الذي نسبت اليه.. فالمرحوم الرائد زين العابدين او صاحب المذكرات وناشرها ليسوا وحدهم شهود القضية ومعاصريها.. كما ان الحقبة التي تناولتها المذكرات حقبة تاريخية وسياسية حظيت باهتمام نخبة عريضة من السودانيين ينتمون الى كافة قطاعات المجتمع لم يكتفوا بالنظر او الفرجة الى صراعات مايو ومعارضتها المقدرة كماً ونوعاً..!! فالحدث الذي لا يشير اليه الكاتب من قريب أو بعيد عندما يكتب في اقتضاب عن ادوار محمد ابراهيم والشايقي في حماية مايو والدفاع عنها- رغم انه كان أهم أسباب الصراع داخل مجلس ثورة مايو الذي انقسم الى مدافع عن الجريمة ومرتكبها ومنهم الرائد المرحوم كاتب المذكرات والى مدافع عن دولة العدالة وسيادة القانون بقيادة الرائد فاروق عثمان حمد الله، والذي يقع الامر برمته في نطاق مسؤوليته ووظيفته واختصاصه كوزير للداخلية وهو ما يحاول الكاتب اخفاءه باثارة تلك الاستفهامات والاسئلة المبهمة!! فهل كان المرحوم الرائد زين العابدين عندما يتحدث او يشير الى دور محمد ابراهيم في القضاء على ثورة شعبان يقصد تلك الحادثة التي انطلقت خلالها القذيفة من المدرعة التي كانت تقف بالقرب من معمل استاك والسكة حديدلتقتل وعلى الفور طالباً من المتظاهرين وترسل رسالة شديدة اللهجة والعنف الذي لم يسبق له مثيل ولم يتكرر حتى الآن في السودان- فالمظاهرات قبل ذلك وبعده تتصدى لها الشرطة وهى التي كانت تطلق الرصاص في احلك اللحظات وتتجنب اصابة المقتل- فهل كان ذلك هو الرجل نفسه الذي كان وقتها ضابطاً في سلاح المدرعات بعد ان تمت ترقيته من الصف بسبب اشتراكه بفعالية وحماس في انقلاب 52 مايو 9691!! ٭ فنحن ايضاً نتساءل الآن عن القادة الحقيقيين والمفجرين لانقلاب مايو أو ثورتها وعلى رأسهم الرقيب ثم النقيب والعقيد محمد ابراهيم سعد، وليس صعباً ان يدرك المرء أو يستدرك ان الرجل كان رقماً خطيراً لا يمكن تجاوزه حتى من قبل الرئيس جعفر نميري او الرائد زين العابدين محمد احمد عبد القادر ويحق كذلك للقاريء لمذكرات الرائد زين العابدين وعن تجنيده كما يزعم للرقيب محمد ابراهيم وضمه الى مسرح المأساة والملهاة التي حدثت في 52 مايو وبعدها، ولعبت ادوارها في مسرحية شاهد ما شافش حاجة كالرائد المرحوم زين العابدين الذي لم يسمح له نميري بالدخول الى معسكر المدرعات بالشجرة لحضور المحاكمات بينما كان الجندي المزعوم حسب مذكرات الرائد زين العابدين بطلاً في تلك المحاكمات يحكم على الضباط ويقوم بالتنفيذ في مسرحية من قتل من ومن يجند من؟؟ أما هجوم كاتب المذكرات على قائده وزعيمه العقيد جعفر نميري فيخرج الى ابعد من الشكوك والتساؤلات إلا انه أى الكاتب زين العابدين يظل عاجزاً في مذكراته المثيرة للجدل عن تقديم الاجابة الشافية عن ملابسات اختفاء ثم ظهور جعفر نميري فجأة في كل الازمات والصراعات التي واجهتها منذ يوليو 17 أو في شعبان سبتمبر 37.. أما في سبتمبر 57 حسن حسين أو يوليو 67 محمد نور سعد، فانه لا يملك غير الحيرة والريبة في مكان وتوقيت الاختفاء ثم الظهور في لحظة حاسمة والسيطرة سريعاً على مقاليد الامور ومجرياتها، وهو أمر لا يحسب على نميري بقدر ما يحسب على رفاقه الذين لم يلعبوا غير دورهم التقليدي في كواليس مايو وصفوفها الخلفية بعيداً عن مسرح الرئاسة وسلطتها التي انبطت بجعفر نميري وحده دون أى شراكة من الآخرين خاصة من مفجري الثورة وروادها المزعومين!! فالامر لم يكن بتلك البساطة التي يتصورها كاتب المذكرات ورفيق الدرب لمايو وقائدها.. وهو لم يبدأ كما يعتقد المرحوم الرائد زين العابدين بتلك الاجتماعات التي تعقد في منازل مجهولة دون اذن اصحابها وعلمهم بما يدار داخلها من التآمر والمكايد.. فلقد كانت هنالك آثار اخرى ومؤثرات اجنبية على مسيرة الثورة وقائدها سابقة لعلاقة المرحوم الرائد زين العابدين بذلك الشأن بما يزيد على العقد الكامل من عمر الزمان، فلقد كان ناظر مدرسة حنتوب الثانوية المستر براون بريطاني الجنسية معجباً بالطالب جعفر محمد نميري الذي كان مستواه وسطاً وله نشاط رياضي كبير(...) وكما يقول مؤلف كتاب السودان في عهد نميري الخواجة انتوني سلفستر (1) ترجمة د. مبارك بابكر الريح ويقول الرئيس نميري في هذا (لقد شجعني المستر براون لمزاولة انشطة متعددة وضاعف من حبي لكرة القدم.. لقد كان رجلاً موضوعياً ومحبوباً.. علمني أشياء كثيرة في الحياة.. وقد حرصت لدى زيارة بريطانيا في مارس 3791 ان يكون المستر براون معي عند تلبيتي لدعوة ملكة بريطانيا لتناول طعام الغداء بقصر بكنجهام) انتهى كلام نميري في كتاب الخواجة البريطاني وما لم يقله نميري هو انه انضم للكلية الحربية بتوجيه من مستر براون ناظر مدرسة حنتوب الثانوية. فالكاتب الخواجة انتوني سلفستر متحمس ايضاً لنميري ونظامه ولا يخفي عداءه للثورة السودانية وقيادتها الوطنية فيكتب في صفحة 58 من كتابه السابق. كان تنظيم الضباط الاحرار بقيادة المقدم جعفر نميري يتأهب في منتصف ليلة الخامس والعشرين من مايو 9691م للانقضاض على النظام القديم.. وفي ذلك اليوم حدثت بلبلة حيث عرف الشيوعيون بالسر واشيع انهم ربما يكشفون الامر للسلطان.. وفي هذا يقول الرئيس نميري ( في الساعة الرابعة من مساء يوم 42 مايو 9691 ذهبت شخصياً الى منزل عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني واخبرته ان يلتزم الصمت ولا يفشي خطتنا للحكومة.. واخبرته ان الحركة تسيطر الآن بالفعل على كل المرافق العامة في البلاد وأى مقاومة للثورة ستؤدي الى سفك الدماء الذي لا نريده.. وللحقيقة وافق عبد الخالق الا يفعل شيئاً واوفى وعلى الرغم من ذلك لدى مغادرتي لمنزله امرت اثنين من رجالنا لمراقبة منزله) انتهى نميري والخواجة سلفستر الذي نقلنا عنه من الطبعة المترجمة لكتابه الذي صدر في العام 9791 عن دار النشر بجامعة الخرطوم. وفي تمهيد الكتاب يذكر المؤلف ما يلي ( لقد داومت زيارتي للسودان مرة كل عام منذ عام 9691) انتهى ومما اورده الكاتب في ثنايا مؤلفه يبدو انحيازه جلياً ودفاعه المستمر واعجابه بجعفر نميري، فهل كان هذا الخواجة الذي يشارك مستر براون في الجنسية البريطانية والاعجاب بنميري يمارس نوعاً من التلقين السياسي لجعفر نميري كما فعل الخواجة الصهيوني داؤود روبيني مع عمارة دنقس اول ملوك الفونج أو السلطنة الزرقاء فتلقينات روبيني استفاد منها عمارة دنقس في حماية شعبه ومملكته من غزوالسلطان سليم الاول، بينما تأكدت حماية المنظومة الرأسمالية الغربية بقيادة امريكا وبريطانيا لنظام نميري بعد احتوائه سياسياً واقتصادياً. فما جرى من التصفية والاعدامات في يوليو 17 لم يكن صدفة ولم يكن بسبب انقلاب 91 يوليو أو مجزرة قصر الضيافة المزعومة فلقد جاء نميري محرضاً بأجندته المعلنة والخفية، وكان اول المستهدفين وفقاً لتلك الأجندة العالمية الشهيد عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، خاصة بعد ان تصدى بفكره وثقله السياسي لانجاز المرحلة الوطنية الديمقراطية التي اكتشفها الشهيد بعبقريته ووعيه التام بالقضية السودانية التي فقدت أهم مراحل تبلورها الوطني الديمقراطي، خاصة عند تشكيل تنظيماتها السياسية والفكرية حول الطائفية الرجعية والعقائدية المذهبية المتطرفة يميناً او يساراً. إلا ان القوى الدولية المتحالفة مع عناصرها من الوطنيين ووكلاء الاستعمار الحديث في الشرق الاوسط وافريقيا تكالبوا على الثورة السودانية الوطنية الديمقراطية الى ان وئدت في مهدها منذ الثاني والعشرين من يوليو 17 وحتى الآن ولا تزال مقبورة في مقابر اولئك الشهداء العظام والى ان تبعث من جديد.