ثمة إضاءة خافتة تنبعث من ساحة المنزل الخلفية التي تقود الى الباب.. الباب موارب قليلاً.. عدد من الشباب بملابس غريبة يتوافدون على المكان في شكل مجموعات وأفراد.. فتيات مكشوفة سيقانهن أو مغطاة أحياناً ببنطال صارخ في الضيق ذي قماش حاد المرونة ممعن في التمسك بأجسادهن يفدن أيضاً ثنائيات أو مع نفس المجموعات.. لغة الاحاديث الدائرة هنا اما عامية الشارع او انجليزية.. وأغاني الهيب هوب.. وقد تدور مناظرة في الشارع فجأة فأغلبية الحضور حافظون لأغاني الهيب هوب العالمية عن ظهر قلب، مما يجعل التحدي كامنا في أي منعطف على الطريق متي ما تحرش لفظياً أحد ما بآخر ما. لتبدأ حفلة الدي جيه التي لا تنتهي الا بحلول الثالثة او الرابعة صباحاً.. فما يجري هنا ينغرس ببطء في ثقافة المجتمع السوداني رغم الاطار الضيق الذي يتسم به انتشار هذه المجموعات الموسومة بمجموعات النيقرز، او كما يعرفون أنفسهم بمجموعات الهيب هوب والراب.. وفي مشهد آخر يتجمع عدد من الشباب امام أحد اندية المشاهدة التي تدوي سماعاتها بأغاني الراب يرقصون مع ايقاعها باحترافية غاية في الكمال واداء مبهر وحتى شفاههم تنطق في سلاسة مفردات اللغة الانجليزية بالغة التعقيد لهذه الأغاني والمفرطة في البذاءة إن ترجمت، ولا يدل مظهر هؤلاء الشباب على انهم وجدوا حظاً من التعليم.. الصراع الثقافي والغزو الفكري وغيرها إصطلاحات راجت كثيرا أخيراً لانتقاد انتشار الثقافات الدخيلة والغربية على وجه الدقة. وفيما يرى مراقبون للشأن الثقافي والمجتمعي ضرورة الحيلولة دون انتشار هذه الظواهر منطلقين من منحى الحفاظ على التراث، يرى آخرون ان الثقافة عمق انساني لا يمكن ان تحتكره جهة محددة او منطقة محددة، مستندين الى ان أية ثقافة لم تزدهر عن فراغ بل استفادت من ثقافات متنوعة حتى عبرت عن نفسها بمثل هذه المخرجات. ومن ناحية أخرى ظلت مجموعات الهيب هوب والراب تشكل هاجساً أمنياً كبيراً للجوء بعض هذه المجموعات الي اعمال السلب والنهب، الامر الذي أدى الى تشكيل رأي عام يحسب ضدهم في ظل مجتمع يتسم بالمحافظة.. «الصحافة» تعمقت في هذا المنحنى للشباب الذي يراه البعض خطراً داهماً على المجتمع السوداني ويحسبه هم المنضوون تحت لواء هذه المجموعات مجاراة للعصر. يقول سفيان عكرم الذي عرف نفسه انه محترف أداء حركي، انهم بوصفهم شباباًً جزء من المجتمع العالمي، ولا يمكن أن ينفصلوا عنه، مضيفاً أنه يعتز كثيراً بثقافته السودانية، وان ممارسته لرقص غير سوداني لا يعني انه تنكر لسودانيته، وان الرقص السوداني المتمثل في الكرن والعرضة وغيرها اضاف للثقافة والتراث الانساني والعالمي الكثير، مشيرا الى ان المجموعات التي سميت «النيقرز» خصمت من رصيدهم كثيراً، كاشفاً عن فارق كبير بينهم وبين هذه المجموعات، مؤكداً أن كثيراً من هذه المجموعات لا تمارس النهب، بل يلتزم أعضاؤها بالعمل الطوعي تجاه مجتمعاتهم، ويقيمون حفلاتهم ب «الشيرينق» أي بالمساهمة مع بعضهم، وان حفلاتهم ذات تكلفة منخفضة جداً، حيث انهم لا يحتاجون الا لساوند فقط، وأحياناً يستخدمون سماعات متوسطة الحجم، ولا تتجاوز تكلفة الحفلة ال «150» جنيهاً، كاشفاً عن أن المجموعات التي تمارس النهب تقوم بتغطية نفقات الحفل من الاموال المنهوبة والتي يطلقون عليها اسم الغنائم، وتوزع الاموال المتبقية فيما بينهم. وكشف عن ان «بوس» زعيم مثل هذه المجموعات يمكنه ان يستدين مبلغاً مالياً من احد الافراد نظير ان يأخذ المستدان منه «الطقة الجاية»، أي عائد السرقة القادم أياً كان. كوكو سليمان بوس لمجموعة هارد لايف، كانت افادته بعامية شارع صعبت صياغتها، وتخللتها مفردات انجليزية واضحة مع تحريك لليدين يشابهه التحريك الراقص. وليدي مؤدي الهيب هوب يكشف عن تنظيمهم مسابقات كبيرة في اداء رقصات الهيب هوب والراب، متضجراً من الحملة الاعلامية الشرسة ضدهم، رغم الاهتمام والرعاية التي يلقاها كثير من مؤدي الهيب هوب والراب في الخارج وفي دول شقيقة، وتوفير حيز اعلامي يجذب كثيراً من المشاهدين، وانتشار مسابقات الأداء في معظم الفضائيات العربية وأكثرها احتراماً طبقاً لما قال، كاشفاً عن ان هنالك من لا يريد ان يرى الحقيقة لوجهة نظرته السالبة حيالها، مؤكداً ان ما يمارسونه ليس جرماً حتى ينبذوا بسببه، وأن لجوء البعض منهم الى انتهاك القانون لا يعني بالضرورة تعميم الامر عليهم جميعاً، خاتماً حديثه بأن المجتمع يراهم غرباء وغير واعين للواقع، بينما هم عكس ذلك تماماً. الباحث الاجتماعي مرتضى تاج السر، يرى أن هذه الفئات محدودة ومنعزلة وليست ذات أثر اجتماعي، غير انه يرى ضرورة الانتباه للغزو الثقافي الذي يهدد تماسك قيم المجتمع وتراثه، مشدداً على ضرورة غرس الارث الثقافي السوداني في نفوس الشباب في اطار تخطيط متكامل يبدأ منذ نعومة أظافرهم ويهتم بالجوانب التربوية والإعلامية، مؤكدا ان خللاً كبيراً نشأ في الفترة الماضية مرتبطاً بفشل السياسة التعليمية، وقاد الي جنوح المراهقين للاهتمام بالثقافات الاخرى على حساب الثقافة السودانية، مما صنع فراغاً كبيراً عبأته الفضائيات الأجنبية والشبكة العنكبوتية، كاشفاً عن أن أغلب المنضوين تحت لواء هذه المجموعات هم من فئة المراهقين، وهي فئة تتسم أحياناً بتمردها على المجتمع، موضحاً أن تيار الحياة سرعان ما يجبرهم على تغيير اتجاهات سلوكهم هذا، رافضاً فكرة صنع بعبع منهم وتهويل أمرهم في جانب التأثير على المجتمع.