واحة الخرطوم مشروع جميل وانيق وفخم وعصرى وهو نقلة كبيرة تدخل الخرطوم فى عصر مراكز التسوق الضخمة ، وكان من الأفضل أن يقام هذا المركز بعيداً عن وسط الخرطوم الذى يصعب الوصول إليه بسبب عدم الإنسياب المرورى فى المنطقة المحيطة بالمركز ، وكذلك الشوارع الرئيسية المحيطة مثل شوارع الجامعة والقصر والحرية ، الإتجاه فى العالم الآن هو أن تقام مراكز التسوق خارج المدن عند أطرافها ، حيث تتوفر المساحات الواسعة وعلى الطرق المؤدية إلى المناطق العمرانية السكنية الراقية ، لان الأسعار فى هذه المراكز لا تناسب الفئات الشعبية ذات الدخل المحدود الذين هم زوار جيوبهم خاوية فى معظم الأحيان. أعتقد على الولاية أن تفكر فى إخلاء مركز الخرطوم بدلاً من الضغط عليه بإقامة المراكز التجارية والأبراج الشاهقة ، معتمد الخرطوم أشار إلى تسليم الباعة المتجولين محال تجارية ، وأرجو أن لا تكون مجرد أكشاك مجمعة فى وسط الخرطوم مثل سوق ( سعد قشرة) ، مشروع الواحة والحمدلله قد وصل إلى منتهاه بعد ما يقرب من عقدين من الزمان ، وفى وسط الخرطوم الضيق جداً بين النيل والسكة الحديد ، ومنطقة المقرن وكبرى برى حيث تزدحم المنطقة ببائعات الشاى والفريشة فى شارع الحرية والشوارع المجاورة والأكشاك التى تبيع الملابس والتمباك واللحمة والخضار وماسحى الأحذية ، وكل ما يخطر على البال سداح مداح على الطرقات ، تبدو الواحة الجديدة فى قلب الخرطوم وكأنها قد ضلت طريقها بالرغم من جمالها وحسن منظرها. المشروعات الكبرى فى الولاية فى كثير من الأحيان تبدو وكأنها قد درست على عجل ، أو تمت بضغوط من نافذين ، وهناك مشروع كبير آخر الولاية طرف فيه بدرجة كبيرة يبدو أنه يواجه تعثراً فى التنفيذ وسوء فى إختيار الموقع ، لذلك ما زالت الفرصة سانحة للمراجعة والتأمل فى جدواه، ألا وهو مشروع مطار الخرطوم الدولى الجديد. مشروع مطار الخرطوم الجديد الذى تم تغيير موقعه من شرق الخرطوم الذى تم إختياره منذ العهد المايوى إلى منطقة الفتيحاب غرب أمدرمان بطريقة أغفلت حقيقة عمرانية تأسست عليها الخريطة العمرانية الموجهة لولاية الخرطوم ، والتى بنيت على فكرة أن واجهة الولاية ومدخلها بالنسبة للقادمين إليها عن طريق خطوط الطيران هى الأحياء التى تقع فى شرقها مثل المنشية والرياض والطائف والصفا وابراج وسط الخرطوم والتى تمثل ( الخرطوم سكاى لاين) والآن وبالرغم من الإصرار على المضى فى المشروع فى موقعه الجديد ، بات من الواضح أنه يواجه تعثراً فى التنفيذ لأسباب تتعلق بأولويات الصرف ، الأمر الذى يدعو إلى التوقف والتساؤل ما إن كان المشروع فعلاً يحظى بأولوية فى هذه المرحلة من تاريخ السودان ؟ أعتقد أن مطار الخرطوم الحالى بقليل من التطوير الذى لا يتطلب مئات الملايين من الدولارات التى يتم إقتراضها لمثل هذه المشروعات الضخمة عادة يمكنه أن يستوعب حركة المسافرين خلال الربع قرن القادم ، حتى اذا وصل عدد المسافرين عبر هذا المطار إلى ملايين الركاب فى العام ، وهو تقدير مبالغ فيه ، لان المسافرين عبر مطار القاهرة الدولى الآن عددهم لا يتجاوز بضعة ملايين بالرغم من طاقته الإستيعابية الكبيرة ، والحركة السياحية التى توجد بمصر. ويمكن ايضاً مقارنة الوضع الحالى لمطار الخرطوم بمطار دبى الدولى ، الذى يشبه مطار الخرطوم من حيث الموقع بدرجة كبيرة إذ أنه يقع تماماً فى وسط مدينة دبى وبجوار مركزها التجارى ، وبعمليات تطوير ذكية يستقبل المطار الآن أكثر من عشرة ملايين مسافر فى العام ، وأصبح معبراً رئيسياً لحركة الطيران العالمى وقررت دبى تأجيل مشروع مطار آل مكتوم فى جبل على . مشكلة مطار الخرطوم الحالى ليست فى عدم قدرته على إستيعاب حركة المسافرين فقط ، فذلك يمكن تجاوزه بتمديد مساحة المطار نحو الغرب وإقامة صالة ضخمة للقادمين والمغادرين مكان المواقف الحالية للسيارات ومقار الشركات الملحقة بالمطار ، ونقل هذه المواقف ناحية منطقة الأندية القديمة الحالية التى تقع غرب شارع المطار ( شارع أفريقيا) مع تعويض الأندية فى مكان آخر أكثر إتساعاً ، وعمل معابر علوية كهربائية بين الصالة ومواقف السيارات الجديدة ، وهى فكرة تشبه تماماً ما فعلته بلدية دبى وهيئة الطيران المدنى فيها حيث تقع مواقف السيارات من الناحية الأخرى للشارع ، وكذلك الإستفادة من المواقع التى توجد بها بعض المكاتب المرتبطة ببعض خدمات المطار التى يمكن نقلها إلى الناحية الشرقية من المطار ( ناحية الرياض ). فى إعتقادى أن مشكلة المطار الحقيقية هى أنه يشكل حاجزاً وعائقاً مرورياً بين الخرطوم القديمة التى تمثلها أحياء الخرطوم وسط والخرطوم 1،2،3، والعمارات والأحياء الشعبية الأخرى ( الديوم والحلة الجديدة والقوز ..... ) التى تقع جنوب وغرب تلك الأحياء ، وبين التمدد العمرانى الضخم الذى حدث شرق المطار فى الرياض والطائف والمعمورة والمنشية ومناطق الجريف ، ويمكن التغلب على المشكلة بنفس الطريقة العبقرية التى قامت بها بعض مدن العالم ، وذلك عن طريق شق نفق عند نهاية الشارع القادم من كبرى المنشية ماراً بمستشفى رويال كير متجهاً ناحية الشرق تحت شمال مطار الخرطوم الحالى يربط مناطق شرق المطار بغربه عند بداية شارع 39 فى الخرطوم (1) أمام السفارة الكويتية ، وشق الأنفاق تحت المطارات ليست بدعة فقد شقت بلدية دبى نفقاً طويلاً تحت مطار دبى ، كما قام الفرنسيون بشق نفق للسيارات يمر تحت ممر هبوط الطائرات عندما قاموا ببناء مطار تشارلس ديجول بباريس ، وهذا يدل على أنه لا توجد مشكلة هندسية تعترض تنفيذ مثل هذه الأفكار. مطار الخرطوم الدولى الجديد وفقاً للأرقام المتداولة ربما تصل تكلفته إلى 800 مليون دولار يتم الحصول عليها عن طريق القروض ، واذا ما أضيفت إليها أرباحها تفوق التكلفة ذلك الرغم بكثير، أما إجراء التحسينات التى نقترحها فلن تتجاوز فى إعتقادى الخمسين إلى مائة مليون دولار ، وهذا تقدير عشوائى طبعاً وربما يكون اكثر أو أقل ، ولكن من المؤكد أنه لا يتجاوز ذلك الرقم بكثير . إن البلاد تمر الآن بمرحلة إقتصادية تقتضى إعادة ترتيب العديد من الأولويات والمشاريع وتخفيض النفقات ، وتأجيل المشروعات التى تزيد من الأعباء المترتبة على القروض والديون ، وال 800 مليون التى كانت ستنفق على المطار إذا ما تم تأمينها الأفضل أن تنفق على مشاريع ترتبط بمشروعات الأمن الغذائى فى مجالات الزراعة والصناعة والطرق . ولاية الخرطوم التى بها مطار الخرطوم الحالى ، تحتاج إلى أفكار عبقرية مثل مشروع الواحة الذى تم إفتتاحه مؤخراً ، ولكن مع مزيد من التدقيق فى إختيار المواقع المناسبة ، وحديث الوالى عن إعادة الخرطوم إلى سابق عهدها ( الخرطوم بالليل ) حديث جميل ولكن ( الخرطوم بالليل) التى كانت فى سابق الأزمان لم تكن شوارعها تمتلىء ببعائات الشاى والزلابية فى كل ركن وتحت كل شجرة وناصية ، وكان شارع الحرية فيها خالى من باعة الخضار واللحمة والتمباك والفريشة الذين يبيعون كل شىء يمكن أن يباع ويشترى ، و (الخرطوم بالليل ) كان فيها مقهى أتنى ، والمحطة الوسطى ، وزكى ، وسينما كلزيوم ، وسينما الوطنية غرب . لن تعود الخرطوم كما كانت إلا إذا عادت المحطة الوسطى ، التى تم إغلاقها لأسباب سياسية خلال فترة مايو ، فالمحطة الوسطى كانت هى القلب النابض لولاية الخرطوم، تماماً مثل ميدان بيكاديلى فى لندن ، عندما كان صوت الراحل الطيب صالح يصدح فى دعاية سجائر الروسمان على شاشة سينما كلوزيوم ودور العرض فى العالم العربى و يقول ، "من قلب العالم النابض فى ميدان بيكاديلى بلندن إلى سنغافورا فى شرق آسيا ، ومن سينغافورا إلى هونج كونج ، العالم كله يستمتع بتدخين......... " ، كذلك السودان كله كان يستمتع بالمحطة الوسطى ومعروضات شارع البرلمان وشارع الجمهورية ومخازن الأفندى والمصنوعات المصرية والمعروضات المصرية ، لان تلك المنطقة هى قلب الخرطوم النابض فعلاً، مثلهما مثل شوارع وسط البلد فى القاهرة التى يحفظها كل السودانيين ( شارع سليمان ، وشارع قصر النيل ، وشارع شريف ، وشارع عدلى ، وشارع 26 يوليو ) لم تتراجع أهمية تلك الشوارع بالرغم من ظهور شارع العقاد فى مدينة نصر ، وشارع جامعة الدول العربية فى المهندسين وهى أحياء جديدة . المدخل إلى ولاية الخرطوم هو شرقها وليس غربها ، إلا إذا كنا نغالط الحقائق العمرانية القائمة أمام أعيننا ، ومطار الخرطوم ينبغى أن يكون فى شرقها ، اذا ما كنا نتبع و نعتمد الأساليب الموضوعية والعملية فى تخطيط المدن .