سأل سائلٌ من الزمن الجميل أحد الشباب الممتلئ طموحاً ورغبةً في رفعة شأن وبناء هذا السودان.. يا بني بارك الله فيك، لقد كثُر اغتراب الشباب وأصبح هروبهم من السودان يُدمي العين ويوجع القلب، فبهروبهم من يبقى للسودان؟ أهو جحود منكم لحقه عليكم أم ماذا؟.. أجابه الشاب الذي كان وقت السؤال يقضي للرجل الأشيب الوقور خدمةً جليلة بحكم تخصصه الجامعي.. يا عمي.. أرجو ألا تسميها هروباً، كان أولى أن تسميها فرصة عمل لحياة أفضل.. حياة كريمة ملؤها الاحترام والتقييم.. فبقدر ما تعطي وجب أن تُعطى ولكن.. لقد أنفق علينا أهلنا من مالهم الحلال ما أنفقوا لتعليمنا.. وسهرنا ليالي حتى أسودت عيوننا، فانفرجت أساريرنا حيناً بتسلم شهادة تخرجنا في الجامعة.. منا من اكتفى بنجاحه.. ومنا من فرح وأفرح أهله بتفوقه وأحراز ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من الدرجات.. ولكن ياعمي والحديث للشاب لقد وجدنا أن كليهما مجرد ورقة، وإن كنت لا ترتدي جلباب قوم «سيماهم في وجوههم» فلن تجد حتى ما ترتديه.. وانتهى كلام الشاب في حيرة من الشيخ السائل عن الإجابة.. ولكن وجدت أن أبلغ موقف يمكن أن يعبر عن سؤال «لماذا نهاجر خارج السودان» هو موقف أحد شباب السودان الذي كان يبدو من هندامه وكلامه أنه متعلم ومثقف، وقد يكون بلا شك يحمل شهادة جامعية.. تقابلنا صدفةً قبل سنتين تقريباً في أحد منافذ الحصول على تأشيرة الخروج التي يستخرجها أي مسافر يرغب في الخروج من هذا البلد «العزيز على قلوب أهله والقاسي على جيوبهم»، بغية الحصول على تأشيرة خروج للسفر.. وحقيقة لم يعلم أحدٌ من الواقفين لماذا كان يريد السفر، ولم يكن يهمنا أن نعرف بحكم أن لكل مشاغله ولا علاقة بين أحدنا والآخر ونحن وقوف في الصف حينها غير السلام، ولكن أتضح مما حدث لاحقاًً أنه كان يبحث عن فرصة افضل للحياة بالخارج.. غير أن الشرطي الذي يقدم الخدمة مع نفر من زملائه طلب منه «كجزء من اجراء روتيني» إذن سفر من الجهة التي يعمل بها.. وأنا بوصفي مواطناً قد لا استغرب هذا الطلب باعتبار أن المسافر قد يكون «زايغ من شغله وللا ضارب قروش وشارد بالغنيمة...الخ».. ولكن كان جواب الشاب كحال معظم الغُبش في السودان بأنه «لا يعمل».. عاطل يعني.. غير أن ما أضحك الجميع وقوفاً وجلوساً هو إصرار مقدم الخدمة على أن يحضر أذن السفر.. لقد تحير حينها الشاب وتحيرنا نحن وربما تحير الطير من حولنا والوحوش في أوكارها.. ليس من السؤال فقط ولكن من كيفية الإجابة عليه.. قال البعض اذهب الى مكتب العمل واحضر خطاباً.. وقال آخرون على سبيل التندر اخرج لهم جيوبك لتثبت لهم أنها «خاوية على عروشها» وأن سفرك ليس الا لأنك يئست من الحصول على عمل هنا في السودان وترغب في ذلك في الخارج وبالحلال.. ضحكنا فعلاً من قلوبنا وتبسم الشرطيون الذين يؤدون الخدمة «بقلوب سودانية صافية تعكس معدنهم بصفتهم سودانيين» من هذا الموقف المضحك المبكي والمليء بالمفارقات، الا أنهم غير مؤاخذين بحكم أنهم مأمورون وعليهم تنفيذ التعليمات «حرفيا». بالرغم من هذا الموقف الساخر طرحنا افكاراً حينها يمكن أن تسميها «كلام ناس واقفين ساي» عن لماذا لا تكون هنالك شبكة حاسوب تُربط بها مثلاً وزارة العمل بمكاتب الجوازات حتى اذا أرادوا أن يثبتوا أن «فلاناً» لا يعمل فعلاً وأنه «ما زايغ» فإنهم يقومون بالتأكد من ذلك بنقرة زر على لوحة المفاتيح فيجدون أن اسمه ليس موجوداً في قاعدة بيانات العاملين سواء في القطاع الخاص أو العام بالدولة.. فيوفرون بذلك على المواطن الحيرة في أمره «وحك الرأس ونسف الباقي في الجيب إن وُجد». ومثل هذا الشاب الذي ذكرته قد يكون بكل تأكيد مر على أحد خيام التجنيد لقوات الشعب المسلحة الباسلة، هذه الخيم المنتشرة في طول البلاد وعرضها، وقرأ شعر الأمير أحمد شوقي الذي نجده مكتوباً قرب مكتب أو خيمة التجنيد: وللأوطان في دم كل حر يدٌ سلفت ودينٌ مستحقُ وهذا الشاب وغيره كثيرون قد يسترجع بذاكرته سريعاً، وعلى سبيل المقاربة أين يمكن أن يجد تطبيق هذا البيت في إحدى محطات حياته السابقة.. هل يؤمن بالسودان «وطناً» له !؟ طبعاً يؤمن به ولا يزايد أحدٌ على وطنيته، خاصةً في زمن كثرت فيه المزايدات. هل هو حُر !؟..طبعاً حُر يملك قراره ويملك إرادته التي تفل الحديد والتي ورثها كابراً عن كابر.. حُر يملك «ضراعه وعقله» اللذين أن وُجد من أوفاهما حقهما وأطلقهما فلن يوقفه شيء ألا أن يقول له أهل السودان ..قف كفانا نعيماً. ولكن قد يسأل سائل: هل للشطر الثاني من البيت وجود؟ لقد تربى الشاب في كنف أسرة فقيرة.. متوسطة.. ميسورة الحال.. لا يهم مادام نشأ بالحلال.. دخل المدرسة فوجد نفسه يدفع.. يدفع ليتم تسجيله.. يدفع ليقرأ.. يدفع ليأكل.. يدفع ليركب المواصلات.. ويظل يدفع ويدفع ولا يشتكي.. يعاني هو وتعاني أسرته في سبيل تعليمه ولا يشتكون.. فيتخرج في الجامعة وهو آنذاك صامت لا ينطق.. وينطق حين ينطق من بعد طول صمتٍ كُفراً.. كيف لا وهو يدخل الى معاينة في مجال علمي أكاديمي فيُسأل عن صلاة الجنازة!! وفي مجال هندسي يُسأل عن أسماء معتمدي الولاية أو ولاة الولايات!! وفي معاينة تقنية يسأل عن أعراب جملة في.. ليخرج بعدها ويجد أن من «دونه علماً وفهماً» قد تم تعيينه.. كيف ومتى؟...لا يعلم هو ولا يريد أن يعلم.. ويرجع ليقول بالله عليك يا شوقي أما كان لك أن تحيا بيننا لنقول لك إن قولتك.. أحرامٌ على بلابله الدوح حلالٌ على الطير من كل جنسِ هو بيت القصيد!! ويسألونك لماذا نهاجر خارج السودان؟! غير أنه والله يشهد.. يبقى لوطننا علينا دينٌ مُستحقٌ.. كيف ولماذا؟.. هذه تُحس ولا تُكتب. اختصاصي أول التشخيص بالموجات الصوتية