نظم نادي القصة السوداني في اطار نشاطه الاسبوعي، امسية قدمت فيها الاستاذة آمال عباس مستشارة هيئة التحرير بجريدة «الصحافة» تجربها الصحفية. وقدم الأمسية د. احمد صادق مشيراً الى قلة الكتابة النسوية في مجال المذكرات، حيث قدم بعض الاضاءات حول مذكرات الكاتبة خديجة صفوت، وبدأت الاستاذة آمال من حيث انتهى د. أحمد عند كتابة المذكرات، بعد أن عبرت عن سعادتها بتلك الامسية قائلة: كتابة المذكرات من انواع الكتابة التي تحتاج لشفافية، فهي عملية لتقديم النفس او حكي لتجارب محدودة بشفافية.. هذه الشفافية تفرضها نوعية المجتمعات، والمجتمع السوداني او المجتمع الشرقي بشكل عام توجد فيه كثير من المحرمات التي تقف في وجه هذه الشفافية عند كتابة المذكرات، لا سيما بالنسبة للانسان الذي ما زال عطاؤه مستمراً، او هو موجود على قيد الحياة، هذا بالنسبة للرجل، فما بالك بالمرأة فالامر أكثر صعوبة، والمذكرات ان لم تكتب بشفافية تصبح كتابة تقريرية، وسرعان ما تخلق حاجزا يقف بينها والمتلقي.. اذكر ذلك كلما اقرأ اوراق العمر للكاتب لويس عوض، فمذكرات لويس من المذكرات النادرة في العالم العربي، وفيها مساحة واسعة جدا من الشفافية، وذكر فيها تفاصيل حياته الاولى، علاقته بأمه وأبيه، مغامرات الشباب، وولوجه الى عالم السُكر والمخدرات، وتحدث فيها عن تداعيات اول سيجارة تناولها وانعكاس اثرها على والده، وعن الذي اعطاها له وما تبعها من احداث، فمثل هذه الكتابة لا يستطيع الانسان السوداني كتابتها بمثل هذه الشفافية، وهذه الشفافية مهمة جداً لأنها تعكس المناخ الذي نشأ فيه كاتب المذكرات بلا تدخل.. وهذا الحديث يقودني للحديث عن النفس، فنحن السودانيين مهما كنا لا نجيد الحديث عن انفسنا، ولا نعرف كيف نقدم انفسنا الا في حالات نادرة، وهذه الحالات النادرة ننظر إليها بريبة كبيرة. والسودانيون بطبعهم من سماتهم الحياء والتواضع في الحديث عن الذات، لذلك نحن أشد حاجة لكتابة المذكرات، فهذا البلد به كنوز من المعرفة وبه اناس عبارة عن مكتبات، منهم من رحل وقُبرت معه هذه المعلومات الثرة، وخير مثال لذلك المبدع الخالد خليل فرح، فإذا كتب خليل فرح مذكراته بشفافية لترك لنا ثروة كبيرة. أما حديثي عن نفسي فأنا أتكئ على جيل ومناخ اجتماعي وسياسي كبير، ومن حسن حظي أن ميلادي تم في فترة تاريخية قدمت لنا اكثر مما قدمنا لها، فالجيل الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية، جيل ولد بعد السلام الجريح، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبدأت التحولات من حولنا في العالم. وطفولتي كانت في أم درمان مع بداية قيام الحركة الوطنية في الاربعينيات، في حي ود نوباوي، وهو حي سياسي اجتماعي به جامع السيد عبد الرحمن والانصار، ومسمى على احد رموز المهدية، وكنا نستمع لأغنيات الحراك السياسي في ذلك الوقت، والإنسان ينشأ على ما تفتحت عيناه عليه، المظاهرات وشعاراتها، وكل الأغنيات التي كانت تردد في المناسبات والسيرة الى ضريح السيد «المحجوب». وكذلك شهدنا في سن مبكرة الصراع والتنافس بين الطائفتين، وما تردد من أغنيات في تلك الفترة، ولا استطيع ذكرها الآن لانعدام الشفافية التي ذكرتها في بداية حديثي.. وبعد سن التاسعة انتقلت مع والدي من حي ود نوباوي الى الدويم، وذلك لأن والدي كان موظفا، ووالدي رغم وجوده بحي ود نوباوي الا انه لم يكن انصاريا، فهو سماني وله علاقة مميزة مع الشيخ قريب الله، ونشأنا في هذا الجو الصوفي نسمع للاذكار والانشاد الشعري، والشيخ قريب الله له ديوان اسمه «رشفات المدام»، وقد كنت اتذكر دائما المصحف المخطوط ذا الالوان الفضية والذهبية، وكنت ارى والدي يقرأ فيه او في «رشفات المدام»... وانتقلنا الى مدينة الدويم وهي ايضا مدينة اقل ما يقال عنها انها بؤرة ضوء، الحياة فيها تتسم بالحيوية، وفي الدويم بدأت علاقتي بالقراءة والمعرفة، وقد بدأت بمجلة «المصور» التي كان يأتي بها دائما الوالد، وقد كنت معجبة جدا بصورة ناريمان زوجة الملك فاروق التي كانت هدية أحد الاعداد، وقد كانت مثار تشاجر بيني واختي عواطف، كل منا تود أن تعلقها الى جانبها... ايضا في تلك الفترة بدأت علاقتي بمجلة الصبيان وبكل شخصياتها عمك تنقو وغيره، ومجلة الصبيان ساهمت فعلا في تشكيل جيلي مع المستجدات العالمية.. عام 1952م، ودخلنا الامتحان التجريبي الذي يؤهلنا لدخول المرحلة الوسطى، وكان يجري في مدرسة ام درمان او مدرسة مدني، وكنا عند مغادرة الدويم نتحرك بالسفينة من مشرع الدويم الى الأسكلا. وقد كانت رحلة ممتعة جدا، وقد كنا نستمتع جدا بلحظة فتح الكبري لعبور السفينة او الباخرة، فهذه الرحلات خلقت لنا علاقات حميمة مع الأمكنة وبعض الشخصيات والرموز، ونحن في تلك المرحلة ازداد الحراك السياسي، وبدأت تتكون حركات المقاومة للاستعمار، وتحقق الاستقلال ورفع علم السودان، وبدأنا نفهم التطورات من خلال شعارات المرحلة، وأذكر منها حريق العملة حريق الشعب، كذلك كنا نحفظ كثيراً من القصائد التي كتبت في الجمعية التشريعية، وكنا نشارك بشكل أو آخر في الهم العام، ولذلك اعتبر نفسي محظوظة لسببين هما: انني ولدت في تلك الفترة من تاريخ العالم، وولدت في السودان مع بداية الحراك الاجتماعي وبداية نشأة الحركة النسائية.. وعندما كنت في المرحلة الوسطى كنت قريبة جدا من الاتحاد النسائي، وكنت احرص على حضور مناشطه، وما ساعدني على ذلك أنني درست على يد قائدات الاتحاد النسائي، وأذكر منهن فاطمة أحمد ابراهيم معلمة الرياضيات في ذلك الوقت، وثريا أمبابي «لغة انجليزية»، محاسن عبد المتعال وفاطم عبد الكريم بدري، وعشنا معهم بوعي كل صراعات الحركة النسائية، ودرست على يد الاخوات المسلمات واليساريات، وعلاقتي باليساريات كانت لدرجة التجنيد في الحزب الشيوعي، وذلك عام 1958م، وكنت احرر صفحة الطالبة في مجلة «صوت المرأة» وكنت وقتها في الصف الرابع المتوسط، وقد كان ذلك لأن أستاذتي فاطمة أحمد ابراهيم كانت صاحبة امتياز المجلة ورئيسة تحريرها.. وكنت احرر هذه الصفحة باهتمام شديد، ومن هنا بدأت علاقتي بالكلمة المكتوبة، وقد كان عمر المجلة آنذاك ثلاث سنوات. وبدأت بكتابة هموم الطالبات، ثم بعد ذلك كتبت مذكرات طالبة، واستمرت علاقتي بالمجلة ولم تنقطع، فكنت احضر اجتماعات التحرير، وعرفتني هذه المجلة برموز المجتمع السوداني آنذاك. وبعد أن جلست لامتحان الشهادة الثانوية بدأت أحرر صفحة الادب والفن والمنوعات حتى عام 1971م الذي أممت فيه الصحف.. وبعد امتحان الشهادة ايضا عملت في سلك التعليم، ثم تزوجت باكرا وانتقلت مع زوجي الى مدينة سنار في عام 1965م، وعدت لمواصلة تعليمي مرة أخرى، ثم احترفت العمل السياسي والعمل بمجلة «صوت المرأة». ومن طرائف عملي بهذه المجلة ان راتبي لم تكن تصرفه لي المجلة، بل كانت تصرفه لي احدى الزميلات هي سعاد ابراهيم أحمد، وواصلت في هذا العمل حتى قيام ثورة مايو، وعندما تم تجنيدنا في الحزب الشيوعي كنا صغاراً جدا، لدرجة أننا كنا مثار تخوف القيادة، فقد كانوا يتساءلون دائما عن مدى قدرتنا على تحمل العمل السري.. وهذا الحزب وللتاريخ أنا مدينة له في كل النواحي الحياتية، فقد تعلمنا منه حب السودان بايجابية، وتعلمنا منه إعلاء قيمة العطاء على قيمة الأخذ، لذلك حتى الآن عندما اجد نفسي امام بعض المواقف المثيرة للغيظ وامام بعض التفاهات.. احمد الله كثيرا ان نجانا من هذه الامراض الفتاكة. وفي فترة الستينيات كان الذي لا ينضم لعضوية الحزب الشيوعي محل وقفة، وعندما قامت ثورة مايو رفعت شعارات التغيير الاجتماعي والبناء الاشتراكي، ولم نتردد في الانضمام إليها، وأنا من الذين انحازوا لهذه الشعارات التي رفعتها ثورة مايو عام 1969م.