ان دموع الرجال عصية بيد أن العين تدمع، وعندما تدمع العين نتيجة موقف حزن أو فرح يكون الصدق، وذلك لأنها مشاعر حقيقية يصعب اصطناعها إلا عند أهل الفن والتمثيل، وهذه تسمى مجازاً نشازاً، وكان الفريق الفاتح ضمن الحضور الذي شرف الساحة الخضراء لأداء واجب العزاء في الاحتفال الذي نظم لتأبين الراحل رئيس وزراء اثيوبيا ملس زناوي، حيث امتلأت الساحة الخضراء بالحضور النوعي والكيفي، رجال دين اسلامي ومسيحي، دستوريون وولاة دبلوماسيون يمثلون البعثات الدبلوماسية بالسودان، والشعراء وأهل الفن كانوا حضوراً يتقدمهم الفنان ترباس بعمامته المميزة، وطاقم السفارة الإثيوبية يتقدمهم/ السفير بزيهم الأسود كناية عن الحزن ولكنه أنيق.. والشابة الأنيقة القنصلة تتحرك وتوجه الجمهور الذي فاق عددهم التصور.. والأخ رئيس جمعية الصداقة السودانية الاثيوبية أحمد طه شيخ العرب بالزي السوداني القومي يتوسط الجالية، ويتحدث بلغتهم، أما مساعده ومسؤول الاعلام والعلاقات العامة خالد ثابت فقد كان اثيوبياً في ذاك اليوم، لاسيما انه يشبههم. وعلم اثيوبيا بجانب علم السودان يرفرفان في سارية الساحة الخضراء يزيدان الساحة الخضراء ألقاً على ألقها وخضرتها ومائها الحسن النابع من النافورة الكبيرة التي تضخ ماء الحياة فيتدفق خارج دائرة النافورة متجاوباً مع الحضور، والانارة البادية جعلت من ليل الأمسية نهاراً، مع مساحتها الشاسعة، وادارة الساحة تشارك من رئيس مجلس ادارتها إلى أصغر عامل بها، والكل شارك لنجاح ليلة التأبين ليلة الوفاء للراحل الذي أعطى لبلده أهم ما يعتز به الإنسان الحرية والاستقلال. السفير الإثيوبي تعلو وجهه لمسة حزن بادية لفراق رفيق عزيز كان معه في الجبال والادغال والنضال ضد الطاغية الشيوعي منقستو الحاقد.. فهو شريط ذكريا يدور. وبدأ الاحتفال بدخول عدد يقدر بخمسة آلاف اثيوبي دخلوا الساحة راجلين من شارع «51» بالعمارات من السفارة سيراً على الأقدام بزي مميز وغالبيتهم من الشباب والشابات بزي أسود، وصورة الراحل ملس وعلم السودان وعلم أثيوبيا، مع أناشيد في شكل كورال بالتقراي، ويضاف هذا العدد إلى الحضور الشعبي من الجريف غرب والديوم الشرقية فيصل العدد إلى خمسة عشر ألفاً تقريباً، وروعة التنظيم وروعة الحضور وروعة شعب وفي صبور كانوا حضوراً منذ الخامسة، علماً بأن الحفل بدأ في تمام الساعة السابعة ولم يتحرك أحد ولم يتزمجر أحد ولم يتشاجر أحد، هذا شعب حضاري وفق توجيه قيادته، فقد جلس كل في المكان المخصص له (ناس أنيقة وسمحة عديل كده)، وهناك النظام والدقة وطول البال (ماهلين ما مضايقين) عكس أهل السودان عندنا، قلق وعدم صبر لا مبرر له، وعندنا انفة في الفاضي تستحقر بعض الشعوب مع أنها أفضل منها في التقدم والرقي، فيقول السوداني (قايلني هندي) وذات العبارة نطلقها على بعض الشعوب، وعندنا مشكلة كبيرة في الألوان إذا قدر الله وكان لونك داكن السواد فأنت (شنو كدا ما عارف)، واذا كان لونك أبيض يطلقون عليك لفظ «حلبي» وهذه وسمة ومنقصة، والغريب عندنا لون أخضر، نقول الرجل الأخضر واللمرأة نقول عنها خضرة ناعمة، وهذا اللون لا يوجد في الدنيا إلا عند أهل السودان، وهذا لا يعني بالطبع كل أهل السودان، ولنا صفات وخصائل لا توجد في كل شعوب العالم الكرم والشجاعة والمروءة والتعاون والرجالة، والعرض يفور الدم والتسامح والمسامحة. والحبش أهل حضارة ضاربة في أعماق التاريخ، وعلاقتنا بهم وفق الهوية منذ عهد النجاشي، وأول هجرة بقيادة جعفر بن أبي طالب «جعفر الطيار» وبلال جدنا الحبشي، ودليل حضارتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا إلى ملك لا يظلم عنده أحد». وأول مسجد بني في افريقيا بالحبشة، وكم عدد السودانيين الذين يطلق عليهم ود الحبشية، بل قرية كاملة اسمها «ود الحبشي»، ولا تنس هجرة المك نمر وإنشاء المتمة الحبشية، والامام الهادي المهدي عليه رحمة الله كان مهاجراً إلى الحبشة عقب أحداث الجزيرة أبا، والمعسكرات بدأت بالحبشة، إذن تربطنا أواصر قربى ودم مع الحبش فهم أهلنا. ونيفاشا بدأت هناك، وحتى السلام ومحادثات السلام الآن مع دولة الجنوب بالحبشة، وكان يرعاها الراحل ملس زناوي. وعدد كبير من رجال المال والأعمال سودانيون بالحبشة. إن قول النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً النجاشي بالعادل تدل على العدل، وان الله ينصر الدولة الكافرة العادلة ولا ينصر الدولة المسلمة الظالمة و «لا يظلم عنده أحد»، فصفة الظلم تنضوي تحتها كل مصطلحات القهر والكبت، وهذه علاقتنا منذ ذاك التاريخ بإثيوبيا، ان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموت النجاشي فصلى عليه صلاة الغائب وكبر ست تكبيرات، والأصل في صلاة الجنازة أربع، دليلاً على مكانة النجاشي عند النبي (ص)، وقيل انه قد أسلم عقب مرافعة جعفر بن أبي طالب وتلاوته سورة مريم، عندها بكى النجاشي كما بكى الفاتح عروة، مع الفارق بين الليلة والبارحة.. بالله ألم تكن اليمن أقرب إلى مكة والمدينة أو الشام، حيث القواسم المشتركة من لغة وبيئة وأواصر قربى، لكن القرار كان الهجرة للحبشة، فهذه هي علاقتنا. ونعود للحفل الذي تحدث فيه رئيس جمعية الصداقة السودانية الاثيوبية حديثاً تخللته كلمات بلغة التقراي، فوجد تجاوباً من الجالية، فكانوا يصفقون ويصفرون، وقدم الفاتح عروة وكان متأثراً برحيل الفقيد، فقال تعرفت على ملس بالديوم الشرقية أيام النضال، وقابلته بجبهات القتال، وكان يلبس البنطال والقميص نصف كم والشدة حذاء (وهذه من عندي)، لأن الثوار كان يلبسونها بل المصنع ببحري يصنع لدول الجوار. وقال كان ملس بسيطاً في ملبسه بسيطاً في مأكله بسيطاً في تعامله ولا يملك مالاً ولا داراًً. وقال: عند انتصار الثورة ودخول الثوار أديس أبابا ذهبت معه بطائرة من الخرطوم، وكنت أقود الطائرة دخل القصر، ولكنه لم يتغير فهو يأكل الانجيرة، والبدلة وربطة العنق لا يلبسها إلا في المناسبات والمؤتمرات ومقابلة الرؤساء. وقابلته قبل شهرين وقد نحل جسمه ووهن عظمه، فقلت له يا ملس لازم ترتاح فقال لي: خلاص يا الفاتح أنا أديت واجبي تجاه شعبي ولم يبق لي شيء. سأعمل حتى أرحل. وقال الفاتح إن هذا الرجل يحب السودان وقف معه في أحلك الظروف عندما كان السودان محاصراً، فقد رعى مفاوضات السلام وكان يتابع حتى الجلسات.. انه رحل صادق مع شعبه صادق مع السودان، ولم ينس صنيع أهل السودان له.. انه رحل وفي. ووقف الفاتح وتلعثم في الكلام وهو الفصيح، ثم بكى وذرفت عيناه بالدمع الثخين وغادر المنصة وترك «المايك» والحزن بادأ عليه. ثم عانقه السفير، ثم أوقدت الشموع بصورة مفاجئة، والكل يحمل شمعة، وهذه ثقافة جديدة على أهل السودان حدثت عند ذكرى رحيل قرنق الثانية باستاد المريخ بأم درمان، وتحدث السفير بلغتهم عن مآثر الراحل، وشكر أهل السودان على كرمهم ومشاركتهم، وقال إن إثيوبيا ستظل لأنها دولة مؤسسات وليست دولة أفراد، وسيرعون مصالح السودان ووحدة السودان. ثم ختم الحديث د. نافع علي نافع الذي أكد أهمية الرجل لإفريقيا، وأنه فقد للسودان وإثيوبيا، ونقل تعازي أهل السودان حكومة وشعباً، ثم انتهى الحفل بتوجيه من مسؤول السفارة لأهله بأن يذهبوا ويغادروا الساحة بهدوء وانتظام كما دخلوا، وفي أقل من ثلث ساعة خلت الساحة تماماً من الإخوة الإثيوبيين، بعد حضور أنيق واحتفال تأبين مهيب لوداع عزيز مناضل ضد الظلم والقهر والكبت والإرهاب.. عاش شعب السودان عزيزاً كريماً، وعاش شعب إثيوبيا عزيزاً كريماً كما قال بذلك القمص فيلو ثاوث فرج في ختام كلمته.