تدين السياسة وتوبتها الى حياض الدين ومرجعيته ظل هو الشعار الأهم الذي تبنته الحركة الاسلامية الإخوانية باعتبار أن الاسلام دين شامل يعني بهداية كل شعاب الحياة ، لا علمانية فيه تفصل الدين عن السياسة ، او الاقتصاد او الثقافة او الاسرة ،ولئن كان للحركة الاسلامية إجتهاداتها الفكرية والدعوية والثقافية ، غير أن السياسة كانت شغلها الأهم بإعتبار ان السياسة هي أول عرى الاسلام التي نغضت منذ الدولة الأموية التي حولت الخلافة الراشدة الى ملك عضوض ، ويرى الإسلاميون ان بلاء المسلمين الأعظم هو في غربة السياسة عن قيم الدين ويحملون هذه الغربة المسئولية عن حالة التبعية والذل وأضاعت مقدسات الامة وتمكين الأعداء من رقابها ورقاب الدعاة المسلمين الذين واجهوا الحكام الطواغيت الظالمين الذين ضيقوا عليهم ومنعوهم الدعوة وحالوا بينهم وبين الناس وحرموا الشعوب حرياتها في الإختيار، وصادروا حقوقها ،وسرقوها وأفقروها . كما حملت أدبيات الفكر الاسلامي السياسي الاستبداد السياسي مسئولية الفساد السياسي والأخلاقي والمالي وإضعاف قدرات الامة العلمية والإقتصادية ، وارجعوا له السبب في جملة حالة التخلف التنموي والسياسي والفكري التي يعيشها عالمنا الاسلامي . يقدم الإسلاميون الحركيون العودة الى قيم الاسلام السياسية من عدل وشورى وطهارة كحل لكل تلك المعضلات ، فهل كان الأمر كذلك في تجربة الحركة الاسلامية السودانية ، وهي أول حركة اسلامية سنية تصل الى الحكم في القرن العشرين وان كان ذلك على ظهر دبابة وبإنقلاب عسكري وذلك قبل ثورات الربيع العربي الأخيرة التي قدم فيها الإسلاميون الى السلطة عبر صندوق الاقتراع . يمكن تلخيص التجربة السياسية للحركة الاسلامية في التالي : الوصول للسلطة : هل النتيجة هي حصاد الوسيلة ؟؟ أنجزت الحركة الإسلامية الوصول للسلطة عبر انقلاب عسكري على حكومة ديمقراطية منتخبة ، فهل كان ذلك ( اجتهاداً موفقاً) كما قالت استهلالية مذكرة ( الألف أخ ) الشهيرة ام ان ذلك كان ( غلطة العمر ) كما يرى فريق من الإسلاميين أنفسهم وطائفة من أعدائهم وأصدقائهم ؟؟؟؟ المؤيدون للانقلاب العسكري يرونه ضرورة فرضتها تحديات الواقع السياسي في ظل التعددية السياسية الثالثة عقب ثورة ابريل 1985 ، ويبررونه بتسابق خصومهم السياسيين عبر خلاياهم في الجيش الى الانقلاب على السلطة و يرون ان الحكمة تقتضي الغداء بالخصوم قبل أن يتعشوا بك ، وأن مذكرة الجيش الشهيرة الى رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي وقد أفضت الى إخراج الجبهة الإسلامية من الحكومة كانت انقلاباً عسكرياً من نوع آخر ، إضافة الى جملة من المبررات حملها البيان الأول للإنقاذ ، خاصة الإشارات الى الوضع الإقتصادي ، وحرب الجنوب وعدم تمكين القوات المسلحة من الدفاع عن الوطن ، وتناقص الوطن من أطرافه ، ونذر الحروب والتوترات في الغرب والشرق ، وإتفاقية الميرغني / قرنق..........الخ غير أن الكثيرين يرون في الانقلاب العسكري وسيلة غير أخلاقية ابتداءً ، لأن فيها خيانة لعهد الديمقراطية وبرلمان الشعب ، ودستوره ، وثورته ، وحرياته ، ولمواثيق الحركة مع شركاء الساحة الوطنية ، كما ان تجارب الحكم العسكري كلها لم تفضِ الى اي تحول نحو الديموقراطية بل الى الاحتكار ونظام الحزب الواحد بل وتنتهي بالتوريث للأبناء حتى لو كان منفذو الانقلاب أحزاباً آيديولوجية عريقة كما هو الحال عند البعثيين في العراق وسوريا الذين انتهى بهم الامر الى توريث بشار الاسد من ابيه حافظ الاسد ومحاولات صدام حسين لتوريث ابنه عدي لولا ماحدث في العراق وسعي حسني مبارك وهو وريث ثورة 1952 الناصرية لتوريث ابنه جمال و حاول نفس الامر القذافي لصالح ابنه سيف الاسلام ، وأصحاب هذا الرأي يرون ان العسكريين لن يسلموا الحكم لأحد ، وان دعا الامر فلابأس من ديمقراطية شكلية متحكم فيها ، لا تفضي لتداول سلمي للسلطة وان تزينت بتعددية صورية ، وبرلمان وانتخابات متحكم بنتائجها سلفاً. (2) الحرية والتعددية السياسية قناعة أم ضرورة بعد شد وجذب وخلافات وبعد نحو تسع سنوات خطت الإنقاذ اولى خطواتها نحو تعددية مقيدة في دستور 1998 (حرية تنظيم التوالي السياسي) ثم تعددية كاملة في النصوص ناقصة في الممارسة في دستور 2005 عقب نيفاشا ، وهي خطوة كانت محل خلاف كبير بين قياداتها وكوادر ها فحينما رأى بعضهم ان الحرية فريضة دينية و ضرورة عملية لإصلاح السياسة ومنع الاستبداد والاحتكار والفساد السياسي ، وان التنوع والتعدد طبيعة بشرية ، وواقع سوداني لشعب يكره القيود حتى أنه ثار على الأنظمة العسكرية( اكتوبر، ابريل ) ، وانه لا سبيل لأداء مشرف سياسياً مراقب من الشعب والصحافة الحرة الا في ظل نظام ديمقراطي وحده القادر على إدارة التنوع السوداني والمحافظة على الوحدة الوطنية ، وتحقيق الاستقرار السياسي البعض يرى في الحديث عن الحرية انهزاماً وافتتاناً بالغرب وينسون أن دين الله كله يقوم على الحرية ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ( لا إكراه في الدين ) وان المثال السياسي في عهد الرسول والخلافة الراشدة قام كله على الشورى ( الملزمة ) وليست ( المعلمة ) كما حاول ان يسوق ذلك البعض ، وتجاهل البعض ان الحرية هي شرط الإبداع وداعي الفطرة وترياق النفاق والفساد والظلم . الحقيقة ان الحركة وان تربت على الشورى النسبية في أجهزتها التنظيمية ، وكافحت طويلاً الأنظمة العسكرية في عهد عبود و نميري ، الا ان فكرها السياسي في قضية الحرية ظل متأرجحاًً وغير محسوم ، فهي قد صالحت نظام الرئيس جعفر نميري واستفادت كثيراً من المصالحة والمشاركة في بناء قدرات حزبها وتدريب كوادره للانطلاق به الى آفاق أوسع ، ولكن المؤكد ان ذلك كان على حساب مبدئية موقفها من الحرية ، واحدث كثيراً من التشويه والارتجاج الفكري على عضويتها والمراقبين لمسيرتها ، ولكن الحدث الاكبر والاهم من ذلك ان وصولها للسلطة عبر الانقلاب العسكري ومتابع ذلك من سلوك سياسي وأمني للمحافظة على السلطة بكل الوسائل كرس موقفها الفكري المضطرب من مبدئية الحرية ، وبدا وكأنها بالخيار في اختيار ما يناسبها في الوصول للسلطة والمحافظة عليها دون التقيد بوسيلة دون الأخرى أوالالتزام بمرجعية ضابطة لذلك. . اجتهدت الحركة في المحافظة على السلطة ولم تدخر وسيلة في ذلك في مواجهة خصومها سواء كانوا من القوى السياسية المنافسة او المجتمع الدولي والإقليمي الذي ناصبها عداءً محكماً وسعى لاقتلاعها بكل وسيلة ، سواء كان ذلك بتأجيج نيران الحروب في الجنوب او الغرب او الشرق ، او الحصار الاقتصادي والسياسي ، وقابلت الحركة ذلك بتعبئة الشعب وبنوها لخوض معركة كسر عظم مع هؤلاء الخصوم ، وصمدت رغم كل هذه العداوات ولكن بثمن غال كلف الوطن وحدته ، وكلفها هي نفسها وحدتها بانقسام هو الاكبر والأخطر في تأريخها ، والتكلفة الأكبر هي قيم كانت عزيزة على الحركة وبنيها وأهل السودان ،وعلى رأسها قيم العدل بين الناس في التنمية والخدمات والتوظيف وتولية الشأن العام والمساواة، والطهارة في التعامل مع المال العام ، والحرية في الولاء والرأي ، والشورى ، ورعاية الكرامة الانسانية ، والاحتكار للسلطة لذات الأفراد ، إذ بقي نفس الكادر في قيادة الدولة والحركة لنحو( ربع قرن) وتكلست القيادات وأرهقت ولكن شعارها المفضل ( هل من مزيد؟) القيادة العليا هي نفسها تقريباً ، ومن كانوا طلاباً وقت مجيئ الإنقاذ هم الآن في منتصف ونهاية الأربعينيات من عمرهم ولكن الصفوف الاولى والثانية محجوزة لا تفسح في المجالس داخل الحركة ، فهل تفسح للآخرين من عامة أبناء السودان ، وهل من سبيل لتداول للسلطة في ظل روح الاحتكار وحب السلطة ان أكثر الامور التي لا أجد لها تفسيراً أخلاقياً أو شرعياً أو سياسياً هذا الحرص على الاحتكار لكل مفاصل السلطة مهما صغرت من أعلى هرم الدولة الى أدناه ، بل حتى منظمات المجتمع بما فيها اللجان الشعبية والأندية الرياضية ، واتحادات الرياضة ، هل هي غريزة الإحتكار ؟ ام هي عدم الثقة في الآخرين ، والوهم بإحتكار الكفاءة ، وهل فعلاً نحن أكفأ الناس ، وأين هي مخرجات كل هذه العبقرية بعد ما يقارب ربع قرن من الزمان ؟؟؟؟!!!! وسؤالي الى أهل العلم هل ينطبق نص وروح الحديث الشريف ( المحتكر ملعون ) على احتكار السلع والتجارة وحدها ؟ ام انه هدى عام لكل شعاب الحياة ؟؟؟؟ (4) الشريعة الإسلامية : بين الشعار السياسي والمفهوم الشامل 4/ قامت الحركة الاسلامية على شعار تطبيق الشريعة الاسلامية ، وأعلنت ذلك في أول سنوات الإنقاذ ، مع ان الرئيس نميري قد سبق بذلك في العام 1983 ، واليه يرجع الفضل في إراقة الخمور وإقامة الحدود مهما يكن الخلاف في تفاصيل تجربته والتزامها بضوابط وعدل الشرع ، ولكن السؤال الأهم ماهي الشريعة ، وهل كانت الحركة تعني بها مجرد الحدود . لقد ظلت الشريعة حاضرة دائماً في خطاب الإنقاذ السياسي ، ولكن كثرة التلويح بها وإستخدامها كشعار في التعبئة السياسية دون انفاذ واضح لمضامينها الشاملة التي طالما بشرنا بها الناس ومنينا بها الأنفس ، جعل الامر يبدو وكأنها مجرد ورقة للإستهلاك السياسي في مواجهة الخصوم ، ومجرد استثمار في العاطفة الدينية للشعب المسلم التواق لرؤية الشريعة سلوكاً سلطانياً ، رحمةً ، عفة ً وزهداً في السلطة وزينتها ، شورى وحرية للناس كافة وداخل الحركة خاصة، كفاية ً في المعاش ، ومواجهةً للفقر ، نصرةً للمظلوم ، عدلاً بين الناس ومساواة ، لامحاباة فيها ولاتطفيف ، هذه هي بعض معاني الشريعة التي تضمنتها أدبيات الحركة قبل الحكم ، حتى إن مفكرين في قامة الشيخ القرضاوي والشيخ الغنوشي والأستاذ فهمي هويدي قالوا بأن الحرية والديمقراطية مقدمة على الحدود ، فإن بدت المفارقة كبيرة للناس بعد تجربة الحكم فما ينبغي ان نلومهم ( كثيراً ) ان ظنوا ان الشريعة عندنا لم تتعدَّ كثيراً خانةالمزايدة السياسية (5) الجنوب : فاتورة الإنفصال أمر لوم مستديم فقدت البلاد جنوبها في ظل حكم الحركة الاسلامية ، ولم تزل نيران الحروب مشتعلةً متطاولة في دارفور وكرد فان وبعض اجزاء النيل الأزرق وتوترات هنا وهناك ، ولا أحد ينكر الدور الخارجي، في تأزيم هذه الحروب والإستثمار فيها لصالح أجندة دولية معلومة سياسية وإقتصادية و دينية ، فهي أزمات قديمة الجذور ، ولكن الحقيقة أيضاً ان انفصال الجنوب سيظل مسئولية تأريخية ليس محسوباً على الإنقاذ وحدها ولكن على جملة الوجود العربي والإسلامي في السودان ، سيحسب بأنه فشل للمشروع الإسلامي في إدارة التنوع الديني والعرقي ، عجز في العقل السياسي الاسلامي لإدراك وإستيعاب مطلوبات وثمن إدارة التنوع ،سيعد على المدى الاستراتيجي دليلاً على استسهال الإسلاميين واستهانتهم بقيمة الوحدة ، بل ربما يحسبه الكثيرون دليلاً آخر على مقايضة انفصال الجنوب ببقائهم في السلطة والاهم من كل ذلك ان الانفصال سيكون مادةً للدعاية الدينية والسياسية السوداء لأعداء الاسلام ومنافسيه وسيتخذونه مادة العداوة بين الأفارقة والمسلمين والعرب ، ويستعينون بذلك ،على تحقيق مآربهم التبشيرية والسياسية ، وبناء جدار نفسي ومعنوي بين إفريقيا والشمال المسلم بل والعرب والمسلمين جميعاً . أما أثر الإنفصال على الأمن القومي ، وإثارة وتغذية الحروب على السودان ، فذلك أمر لا يحتاج لكثير حديث ودونكم ما يحدث الآن . صحيح ان الانفصال تم عبر استفتاء ورغبة جنوبية عارمة ، وتأييد وحماس دولي وإقليمي ، ولكن الحركة تخطئ جداً ان ظنت ان ذلك سيعفيها من هذه الفاتورة الباهظة ، ان تمزق وطن وذهاب ثلثه لن يكون حدثاً عابراً وربما لقرون. (6) عبرة الإنفصال : نحو استراتيجية للإنصهار الوطني ويبقي المهم الآن أخذ العبرة من إنفصال الجنوب من أجل الحفاظ على بقية الوطن موحداً ، فإن النار من مستصغر الشرر، آثار انفصال الجنوب وطريقة إدارة أزمته ونتائجها إضافة الى أسباب أخرى كلها اجتمعت لتفجر ثورة للتطلعات في كل أقاليم السودان خاصة الطرفية منها والوطن مايزال في طور التشكل السياسي والانصهار الاجتماعي والثقافي ، ولم يزل هشاً في بنيانه وتماسكه ، ولم تزل عصبية القبيلة والجهة فيه أعمق من الولاء للوطن ، ولم تزل الإستراتيجيات الدولية لتمزيق السودان حاضرة ولها تجاربها الناجحة في الجنوب وغيره ، ومتاح أمامها رصيد وافر من التغابن السياسي والإجتماعي والجهوي ، وحركة تململ ، مهما كانت درجة موضوعيتها والاتفاق و الاختلاف مع عدالة مطالبها ومشروعية وسائلها ، الا ان الحكمة والرشد يتطلبان تفكيراً كلياًً استراتيجياً واسع الخيال ، مخلص الإرادة ، لحل شامل يستوعب تطلعات بني السودان بكل أقاليمهم وإثنياتهم ، وانتماءاتهم ، يستبق الأزمات ، ويقصد العدل والقسط في التنمية والمشاركة في السلطة ، وهذا يتطلب عقلاً سياسياً جديداً من الإنقاذ ، يهدف الى استكمال الانصهار الوطني ، والمحافظة على وحدة الوطن مع استعداد لدفع ثمن ذلك دون كبير تعلق بحظ السلطة والنفس وقرابة الأهل والسياسة والحزب ، تحتاج لعقل سياسي مشغول بإنجاز التراضي الوطني بما يرضي الله وكل أهل السودان ، وفي خلفيته تنوعهم الاجتماعي والسياسي والعلمي والثقافي والتنموي ، ولكن المطلوب استراتيجية للتراضي الوطني تجعلهم جميعاً يرون انفسهم جزء ً من وطن يفخرون به ويحبونه ويختلفون داخله ، ولا يحملون عليه السلاح لأنه وطنهم جميعاً ، وتلك مهمة لا ينجزها إلارجال الدولة الكبار ، أصحاب العقول الكبيرة ، والنفوس العلية ، والقلوب المخلصة المتجردة (7) القبيلة : الأسباب والبديل ان تفشي القبلية التي ضربت كل السودان حتى ماظنناه محرراً منها في الخرطوم والشمالية والجزيرة ولكنها عادت نتنة ، يسبق الولاء لها كل ولاء ، وتحدث فتنها في تمزيق المجتمع وإراقة الدماء وإثارة النعرات ، فهي وإن كانت واقعاً يجب التعامل معه في البوادي والأرياف مع السعي لترشيدها ومحاصرتها بالوعي والتدرج ولكن ماهو مبرر تفشيها حتى وسط أبناء الحركة انفسهم ، وداخل الجامعات ، ووسط المدن ، وهذه ردة اجتماعية ستؤخر كثيراً عملية الانصهار الوطني ، وهي سبب في كثير من تخلفنا بل وحروبنا وصراعاتنا السياسية ، يفسر العلامة ابن خلدون مسألة( العصبية) كضرورة لأي نظام حكم ، الأنظمة التي لا تتحمس للعصبيات الحزبية تلجأ للعصبيات الأخرى ، فلامجال للفراغ في عصبة الحكم ، لأن بها الحماية والدفاع ، لقد عملت الإنقاذ على إضعاف الاحزاب السياسية واستبدلتها بوعي أو غير وعي بالقبيلة ، ونجحت في ذلك نجاحاً واضحاً ، ولك النتيجة هي تحول الناس من الولاء الحزبي الى الولاء القبلي ، اي من الافضل الى الأسوأ ، ذلك أن الحزبية مهما تكن عيوبها فهي أرقى من القبلية ، لأن الناس في الحزب يجمعهم الفكر والبرنامج من مناطق وأعراق شتى ، ولكن القبلية تقوم على عصبية العرق والدم وحدهما ان التجاوز المتدرج للقبلية امر لازم لإنجاز الانصهار الوطني كمدخل للتنمية والاستقرار السياسي ، ولكن ذلك لن يتم الا بإستيعاب ولاءات الناس في أطر أرقى ولابدائل بعد للأحزاب رغم عللها وحاجتهم هي الأخرى لتطويرها وإصلاح حالها وهو أمر مطلوب من الحركة الإسلامية ان تقدم فيه القدوة والتهيئة للملعب السياسي بإتاحة الحريات للناس ،وتترك للتدافع والتفاعل الداخلي ( الحر) ان يفعل فعله مع الزمن والبقاء حينها للأصلح (8) الخطاب السياسي : للهداية أم الدعاية ؟ كثيراً مايجنح الخطاب والسلوك السياسي للحركة الإسلامية للإستعلاء والحدة والاستعداء للآخر ، مع لغة توحي بإحتكار الحقيقة ، و( شيطنة الآخر) وأقصد هنا الآخر الوطني ، وهذه اللغة وإن بدت مفيدة في تعبئة الحشود وتستعير المعارك الا أنها سالبة في التعبير عن رسالة الإسلام المعنية بهداية الناس وليس هزيمتهم ( قولو للناس حسناً ) ، والمطلوب منها الرفق الذي ماخرج من شئ الا شانه وما دخل في شئ الا زانه كما هو الهدي النبوي، ( الحسنى) هي السمة الواجب أن يتميز بها الدعاة ( قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) و( لا تجادلوا أهل الكتاب الابالتي هي أحسن ) فما بالك بشركاء الدين والوطن ، و( القول اللين ) هو امر الله لموسى وهارون عليهما السلام حتى لو كان المخاطب الطاغية فرعون الذي سبق في علم الله إنه لن يؤمن ولكنه هدى الدعوة مهما تكن النتائج ، نحن من اهل دين يقول رسوله صلى الله عليه وسلم :( الكلمة الطيبة صدقة ) ومن شعب مثاله :( الكلمة الطيبة بخور الباطن ) الخطاب السياسي يحتاج الى مراجعة ،ترده الى خطاب الهداية لا الدعاية ، والصدق والتواضع الذي يجعل الحق والحكمة موضع البحث المستمر لا الاحتكار المتوهم ( وانا أو إياكم لعلى هدى أو ضلال مبين ) خاتمة لقد آن للحركة الإسلامية ان تدرك أن سباق الحصان الواحد ممل ولايغري أحداً ، بل يوهن هذا الحصان ، وإن إصلاح البيئة السياسية على قيم الحرية والقسط والتعددية الحقيقية ضرورة ومفيد ليس لصالح الأحزاب والقوى الأخرى ولكن لصالح الحركة نفسها ، وان مباراة الفريق الواحد في ملعب السودان ولما يقارب ربع قرن من الزمان ، أوهنت هذا الفريق ، وأو هنت الوطن ، وان أمامها كثير من التضحيات والشجاعة والصدق مع الله والناس ان أرادت مقاربة وتقارباً مع مشروعها الاول الرامي لتنزيل قيم الدين في السياسة ، أمامها الفرصة ولكن ليس بسقف زمني مفتوح .