قبل أكثر من ثلاثة شهور .. توفى إلى رحمة الله الدكتور مصطفى محمود العالم المصرى الجليل .. شغلنا إستغراقنا فى شأننا السياسى وقضايانا العصية من أن نتناوله بالكتابة فى حيِّزنا المتواضع، تقديراً لما ظل يُقدمه لعالمه الإسلامى بل للعالم بأسره وللإنسانية جمعاء .. وتقديراً أيضاً لتأثيره الكبيرعلى شخصنا الضعيف .. وبمناسبة الفجيعة فى فقده عمدت مرة أخرى إلى قراءة مؤلفاته التى كنت قد قرأتها قبل عدة سنوات، ولم تزدنى قراءتى الأخيرة لكتبه إلا مزيداً من الشغف بها والإعجاب بالدكتور وباسئلته التى ظل يطرحها عن أسرار الحياة والموت والمخلوقات و اتخاذه للعلم والمعرفة والتأمل والمراقبة نهجاً للتحلى بالمزيد من الإيمان بالله وبسبغان نعمته وحكمته. لقد حرصت على متابعة كل الأحاديث والمقالات التى دُبِّجت بمناسبة رحيله المحزن، فاكتشفت أن سر عظمة الدكتور مصطفى محمود يكمن فى إنسانيته وروحه الشفيفة وحبه لأسرته وللضعفاء والفقراء والمحتاجين، وأنا أقرأ سيرته الذاتية راودنى شعور واثق بأن نبوغه وتحبُّره ماهو إلا مظهر وإسقاط وأثر لتواضعه وحبه للناس وللفقراء والبؤساء، فلم يكتف طيلة عمره بتأليف الكتب وإثراء حياة البشر بالتقصى فى أسرار الحياة والتأمل فى دقائقها ومحاولة إستكناه حقيقة الوجود فحسب بل إنه كان مستغرقاً فى عمل الخير، وإذا قُدِّر لأحدٍ أن يتعرف فقط على سيرته فى مجال أعمال الخير لشعر أن الرجل الذى أمامه ليس لديه متسعٌ من الوقت لتأليف الكتب وكتابة المقالات وأنه يُكرس ما لديه من وقت لفعل الخير فقط والعكس صحيح. وكأنما أراد الدكتور مصطفى أن يقول إن الأسئلة التى طرحها فى كتبه بصفة عامة ثم حاول الإجابة عليها، خاصة فى كتابيه لغز الحياة .. ولغز الموت، قادته للإنغماس فى أفعال الخير وتحرى مظانه، فشرع، وكأنى به أنه أراد أن يقول أن لغزىّ الحياة والموت والأسئلة الأبدية والمتراكبة والمتداخلة عنهما فى ذاكرة البشرية لاتُوجد لها إجابات شافية إلا فى التسابق فى فعل الخير أينما كان وحيثما وُجد، فالقارئ لمؤلفات الدكتور مصطفى محمود يستشف من أول وهلة حجم القلق الذى يشغل باله إزاء الأسئلة الحيرى التى تصل إلى حد الإرباك، ثم محاولاته المضنية للإجابة عليها وأن الكلمات وحدها لاتفى بالغرض ولذا لابد من الأفعال لتأكيد صحتها ووجاهتها، فأسئلة مثل ما الحياة؟ وما سرها؟ ومن علم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها ويخرج؟ وهل الموت هو حقيقة مطلقة ؟ لا يستطيع مخلوق أن يجيب عليها بصورة مطلقة إلا بإتباع فطرته المدعومة بالعلم والتأمل فى مخلوقات الله، وهو النهج الذى اتبعه الدكتور مصطفى محمود، فأهدى للمكتبة مؤلفات تُنير العقل وتشحذ الذهن، حيث تقود إلى الجانب المناظر إلى ماتوصل إليه فى رحلة تأمله وهو الجانب العملى والذى تمثل فى أعماله الخيرية، وكأنما يريد أن يقول للعلماء والمفكرين بألا يكتفوا فى ما يرفدون به البشرية من علم بالكلام النظرى فقط وإنما عليهم الأتيان بأفكار عملية تدعم علمهم وتعزز نظرياتهم. كثيرٌ من القراء الذين قرأوا مؤلفاته، وأنا من ضمنهم، لايدركون إستغراق الدكتور مصطفى رحمة الله عليه فى أعمال الخير ولكن من أُتيحت له الفرصة للوقوف على سيرتة الذاتية لرأى عجباً فى تجربتة الإنسانية المذهلة التى قل أن تجد لها رديفاً ، ففى 1976م وبمبلغ لا يتجاوز (خمسة آلاف جنيه) قرر د. مصطفى محمود هو ومجموعة من أصدقائه بناء مسجد عُرف فيما بعد بمسجد مصطفى محمود وتم البناء بالفعل بدعم من سفارة قطر التى يجاور مبناها قطعة الأرض التى شُيد فيها فيما بعد ، وألحق بالمسجد مبنى لعيادات طبية يعمل بها أطباء من جميع التخصصات بكشف رمزى، وحالياً يضم المسجد (6) مستشفيات متخصصة وعامة ويقدم معاشات ل 8 آلاف أسرة شهرياً .. وما يقرب من 15 ألف وجبة كمائدة الرحمن فى رمضان، هذا بالإضافة إلى 1000 وجبة ساخنة يومياً على مدار العام تصل للفقير داخل بيته، بالإضافة إلى العديد من المشروعات الخيرية كمشروع (ما لا يلزمك قد يحتاجه غيرك)، ومشروع (الصدقة الجارية) ومشروع (القرض الحسن) ، بالإضافة إلى قوافل الخير التى تجوب المناطق النائية بمصر وتقدم خدمات طبية وإجتماعية وثقافية ودينية مجانية، وقد زارت الواحات ومطروح وأسوان وقنا وسوهاج، وتبلغ ميزانية مسجد مصطفى محمود لأعمال الخير الآن 50 مليون جنيه ، حتى يقف القارئ على حجم ما تقدمه مؤسسة مسجد مصطفى محمود الخيرية من عمل خارق فحسبه أن يتأمل رقم ال1000 وجبة الساخنة التى تُقدم يومياً وعلى مدار العام والتى تصل إلى بيت الفقير لا أن يذهب الفقير ليستجداها - اعطوه أو منعوه - ثم الرقم الذى يُشير إلى عدد الأسر التى تتلقى المعاش الشهرى من المؤسسة ، لأيقن أن مثل هذا العمل غير العادى لابد أن وراءه إنسان غير عادى . إن التجربة الإنسانية أعلاه لابد أن تصدر من صاحب الأسئلة الصعبة الدكتور مصطفى والذى يقول عن نفسه فى كتابه رحلتى من الشك إلى اليقين (لقد رفضت عبادة الله لأنى إستغرقت فى عبادة نفسى وأعجبت بومضة النور التى بدأت تومض فى فكرى مع إنفتاح الوعى وبداية الصحوة من مهد الطفولة) .. هذه الكلمات وحدها تُثبت أن الدكتور مصطفى محمود الذى كان يعبد نفسه رافضاً عبادة الله ، وبعد أن شعر بومضة النور تعتمل فى فكره وتجتاح وعيه كتب مؤلفاته مثل (الله)، و(رأيت الله)، و(القرآن كائن حى)، و(الماركسية والإسلام)، و(الصوفية السر الأعظم)، و(أسرار القرآن)، و(القرآن محاولة لفهم عصرى)، و(الله، محمد، الكعبة) فضلاً عن إبتكاره لبرنامج العلم والإيمان التلفزيونى ثم ليُتِّوج كل هذه السيرة الذاتية العلمية الفلسفية الفذة بأن يكف عن عبادة نفسه ليعود إلى عبادة الله بإنشاء جمعية مصطفى محمود العملاقة ليؤكد أن الرائد لايكذب أهله ، ألا رحم الله الدكتور مصطفى محمود وأسكنه فسيح جناته.