«هذه إعادة نشر لقصاصات نشرت على الفيسبوك بناء على طلب من مجموعة من الشباب. وهي ليست رواية تاريخية للأحداث ولا ترمي إلى إيراد رؤية نقدية للشخصية المعنية، بل هي قصاصات كتبت ابتداء بنية إبراز ملاحظات إيجابية أو انطباعات ذاتية عن الشخص المذكور» كنت أسمع به سياسياً لامعا لأول وعيي بالسياسة وأنا صبي، لكنني لم أفترض أنني سألاقيه في أية مناسبة، إذ لم يكن يجمع بين حياتينا جامع . وتشاء الصدف أن ألتقي به في ظروف معقدة واستثنائية. كنت طالباً في الطب أمارس الحياة العادية لكل طالب طب، بيد أن الذي كان خافياً على من حولي هو أنني في الحقيقة ، بالإضافة إلى كوني طالباً جامعياً، كنت جندي مشاة تحت الاستدعاء، ليس في جيش نظامي بل ضمن القوة المحدودة للإخوان المسلمين في الجبهة الوطنية آنذاك التي كانت تضم أضاً حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، والتي كانت تسعى لاستعادة النظام الديمقراطي من نظام مايو. بعد رحلة معقدة وصلت ورفيقي في النجعة عبد الفضيل إبراهيم من أبناء الكريمت المغاربة، تقبله الله، إلى معسكرات التدريب في الكفرة . كنا محض جنود كما قلت ولذلك لم يكن مفترضاً أن نلتقي بأي من الزعماء الكبار ، لكن في الصحراء وفي حياة الجندية تتساوي الحظوظ أمام ظروف قاسية لا تميز. لم يكن مفترضاً أصلا أن يكون الكبار في هذا الموقع . الكبار هم دائما في الفنادق وبين العواصم يحملون القضية. أخذونا إليه مباشرة فوجدنا رجلا صبيحا أنحلته الهموم والشدائد. تبسط إلينا في الحديث وبدا لنا شخصاً ناشطا وعمليا ومصوبا نحو هدفه بصورة مباشرة . ما كان لأحد أن يخطئ حقيقة أنه أمام شخصية فذة. تحدث إلينا عن المهمة التي أنتدبت الجبهة الوطنية نفسها لها. ارتحنا لمسلكه نحونا، فنحن مجرد «بندقجية « لم نكن نتحرى أية معاملة خاصة أو مقابلات مع الشخصيات الكبيرة. وبرغم أنه كان يدرك أننا أشخاص ملتزمون لقضيتنا إلا أنه كان حريصاً على أن يبين الهدف الأكبر وراء العملية، أو الفكرة المشتركة بيننا، وهي استرداد النظام الديمقراطي المسلوب، كأنه يوضح الشروط المبدئية لقبولنا في ذلك المعسكر، ولئلا تنصرف الأفكار إلى أن المهمة المنتظرة هي غزو جلف لا تسنده مبادئ. كانت القوة المعدة للهجوم هي من الأنصار بنسبة تفوق التسعين بالمائة، وكان هو يعيش وسطهم. أدهشنا ذلك التناقض، ففي تلك الصحراء كان القائد العملي الحاضر في الميدان للأنصار والإخوان المسلمين هو الشريف حسين الذي لم يكن ينتمي لأي من الطرفين. لم يكن ذلك تتويجا رسمياً له لكننا كنا نقرأ الولاء له في أعين الحاضرين، خاصة بين الأنصار . علمنا أنه أيضاً عندما كان يزور إثيوبيا، وتلك كانت المحطة الرئيسية الثانية للجبهة الوطنية، كان يقيم فترة في معسكرات الأنصار في «قندوت» و «شهيدي،» قريباً من الحدود مع السودان، وهي معسكرات خبرتها بنفسي بها من شظف العيش ما بها. تحركت قوات الجبهة الوطنية نحو الخرطوم يقودها الضابط الذائع الصيت «محمد نور سعد.» فشلت العملية عسكرياً وما جرى فيها أصبح تاريخا معروفاً. لكن العملية لم تفشل سياسيا فهي أجبرت الحكومة آنذاك على الدخول في مباحثات من أجل المصالحة الوطنية، فكانت مجهودات المغفور له فتح الرحمن البشير، ثم لقاء الصادق المهدي مع الرئيس نميري في بورتسودان. نزل الخبر على الشريف كالصاعقة فاعترض اعتراضا متشددا على أساس أن مثل هذا القرار لا يتخذ من طرف واحد، أما الإخوان فقد تلقوه بدرجة أقل من المفاجأة واعتبروا أن «الجبهة» قد انفضت عملياً وذهب كل طرف بعد ذلك منفرداً ليعرض شروطه للمصالحة مع نميري . امتنع الشريف عن المشاركة في أية مباحثات بصورة بدت غير متناسبة مع البراغماتية التي يتميز بها السياسيون عادة. أنجزت المصالحة بشروط مفصلة على كل فصيل. وبقي الشريف في موقفه، إلى أن أعجلته المنية بعد خمس سنوات. لست أدري إلى أية جهة كانت ستتجه السياسة الوطنية لو أنه واصل مسيرته السياسية في الداخل أو الخارج ولم يعاجله الموت بعد المصالحة. ما أنا متأكد منه هو أن قيادته للجبهة الوطنية وعملية 1976 قد أحدثت تحولا كبيرا وفتحت الباب أمام مسار جديد في السياسة السودانية ربما هو نفسه لم يدركه في جميع أبعاده..