أوردت الصحف نهاية الاسبوع الماضي، ان لجنة تحريات عدلية اخذت تلقي القبض على عدد من المتهمين في مخالفات ما يعرف اليوم بسوق المواسير بمدينة الفاشر، وانها حجزت على وسائل نقل واموال وعقارات ومنقولات تمهيدا لمحاكمات تطال افراداً، ولكن يبدو ان الرتق اوسع من ان تداريه محاكمات قانونية. لقد طالعت مؤخرا نبوءة اقتصادية صدرت في وقت سابق عن آدم (سميث) تيراب احمد وهو باحث اقتصادي بشمال دارفور، وهي نبوءة تحكي بانهيار سوق المواسير الذي اخذت الصحف واجهزة الاعلام تتناول وقائع وملامح انهياره حيث (الافلاس، والدمار الاقتصادي، والفقر والجرائم). لقد تناولت دراسة سميث سوق المواسير كظاهرة اقتصادية طارئة في مجتمع شمال دارفور، بخلفية ان الولاية (تنعم بوفورات هائلة تضيق عليها ميادين الاستثمار)، بما وجد السوق من رعاية وحماية من السلطات النقدية والمالية والامن الاقتصادي والسلطات التشريعية والتنفيذية، اتجه كل اقتصاد الولاية للتعامل مع هذا السوق واصبحت كل السلع تباع وتشترى من خلال الشيكات والايصالات، حتى انتهى الامر في خاتمة المطاف الى ان تكون النقود نفسها سلعة يتم تبادلها بالايصالات والشيكات من خلال السماسرة والوسطاء والوكلاء. ولما كان في هذه الظاهرة من احتيال واسع وخداع كبير، اطلق على السوق المنهار سوق المواسير ، وهي استعارة ذكية لما في المواسير والخداع من شبه بوجود نفق لا يسمح باستقرار الاحوال والاشياء داخلها، وفي كلا الحالتين ينتهي المرء الى الفضاء الذي انطلق منه دون نتائج ايجابية برغم ما يبذل من مجهود كبير. في دراسته العلمية المختصرة قدم آدم سميث نقدا لاذعا وتشريحا قاسيا لظاهرة سوق المواسير والدوافع لتأسيسه، واساليب ادارة انشطته، والحماية التي تمتع بها طوال هذه المدة، في وقت ظلت فيه سياسات الدولة الاقتصادية تتجه الى (تحفيز وصناعة الادخار ومن ثم تدويرها في الاستثمارات ذات الحجم الاصغر بهدف القضاء على الفقر الذي خيم على السودان في صورة اشبه بالخرافة الاقتصادية...) بتلك الخلفية فان الجانب القانوني على اهمية ورغبة الجميع في التعاون مع نصوصه للعودة بالناس الى حقوقهم وطمأنينيتهم وكرامتهم، الا انه يعتبر اضعف الحلقات في هذه القضية الشائكة، التي تتطلب جهدا معروفا واسعا، وتطوير القدرات المهنية في سياق الحكم الفيدرالي الذي يجعل من ا لولاية في اقليمها قاعدة اقتصادية اجتماعية كما انها قاعدة سياسية قانونية . على ذلك فان مواطني الولاية المعينة هم من تتاح امامهم الحقائق، للوصول بها الى ما يجفف السالب من الممارسات، وتطوير الايجابي منها خاصة في مجالات الاستثمار التنموي، واليوم بوجود خبراء معنيين بتطوير البنية الاقتصادية الاجتماعية وهم تمتد جذورهم الى القواعد الشعبية بوسعهم البحث في جذور هذه الظاهرة الاستثنائية وتجاوزها الى واقع جديد ينمو فيه الافراد في مجتمعهم دون الحاجة الى اللهث خلف السراب، والذي ادى في نطاق اوسع الى الركود العالمي الذي بدأ في امريكا وانتشر على نطاق واسع في العالم. العودة الى مطالع التسعينيات كانت الدولة قد اتجهت الى لا مركزية ادارة التنمية ، والى خصخصة ادارة الاستثمار، وبالرغم ما للقرارين من بريق يومئذ الا انهما افضيا الى واقع محزن حقا، ان لا مركزية ادارة التنمية لم تؤسس بها مشروعات تنموية منتجة في الاقاليم بعدم وجود رساميل مميزة، وعدم وجود بنيات تحتية كافية ومع ضعف العائد المادي للمواد الخام التي تنتج محليا، ادى ذلك الى مزيد من الهجرة الى المدن. اما ادارة الاستثمار لم تذهب الى ممولين حقيقيين فتعاظمت ظاهرات غسيل الاموال، والكسر ، والجوكية والسمسرة واستثمار الاموال خارج الجهاز المصرفي.. وهكذا لم تمض اوقات طويلة حتى انقسم السودانيون الى من يملكون كل شئ او من لا يملكون ا ي شئ ، هذه الظاهرات وغيرها عجلت بزيادة معدلات النزاع المسلح في جنوب السودان وبروز نزاعات اخرى في مناطق جبال النوبة والانقسنا والشرق واخيرا دارفور. مما يؤكد خطورة المدخلات الاقتصادية والنزاعات، ان اصبح من اهم شعارات الحل (تقاسم الثروة) ، وذلك ميدان جديد للنزاع بين الاطراف حيث تحولت النزاعات العسكرية الى نزاعات سياسية اقتصادية واصبحت جميعها اجندة حرب في مواجهة الدولة المركزية في السودان. عندما اندلع النزاع المسلح في دارفور، كان من بين الاهداف المباشرة للمؤتمر الوطني عبر جهاز الدولة افقار مواطني دار فور كمدخل للإنتصار على التمرد ، وذلك في محورين اساسيين : اولهما: اشتعال الفتن القبلية بين ا لمدنيين، وثانيهما تحطيم الاقتصاد القائم على الزراعة بشقيها النباتي والحيواني بخلفية النزاعات التقليدية بين الرعاة والمزارعين والتي كانت لجان الاجادويد هي من تعمل على تسويتها .. لقد بلغ التحطيم الاقتصادي غايته اليوم، فالمزارعون استقر بهم الحال - والى حين اشعار آخر في معسكرات النزوح واللجوء، اما الرعاة فاشعلت النيران بين البقارة والأبالة وتصاعدت تلك النزاعات وهي تنهك الاقتصاد السوداني بوسائل في غاية في البؤس والتخلف المهني والاخلاقي. مما يؤسف له حقا، ان تحطيم الاقتصاد كوسيلة للاستعلاء السياسي معروفة في الصراعات الآيديولوجية كما كان الحال في الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة وحلفائها والاتحاد السوفيتي وحلفائه، اصبح يمارس وعلى نحو مكشوف بين مركز السلطة الاتحادية ومواطنيها الدارفوريين في الاسواق المحلية في كل المدن السودانية حيثما وجدوا.. ايضا فان ابرز ظاهرات النزاع تلك ان القدرات المالية والاستثمارية التي لم تحاصرها الوسائل التدميرية التقليدية اتجهت قدرات الدولة لمحاربتها في دول الجوار خاصة ودول الخليج عامة، حيث تمت مطاردة المستثمرين الدارفوريين، واستهداف الاسواق الشعبية التي يعملون فيها، فضلا عن اثارة السلطات الامنية في تلك الدول لمواجهتهم، اما الوسائل المحلية في دارفور لتجفيف القدرات المالية للمواطنين فهي كثيرة واخبارها متواترة وان لم تصل دائرة العلم الاعلامي بمهنية وكفاءة. إن الموارد التي توفرت في شمال دارفور خاصة الفاشر فهي من عوائد معاملات المواطنين مع المنظمات الاقليمية والدولية حيث توفرت بعض اموال مدخرة ، فجاءت اسواق المواسير كوسيلة تدمير جديدة للسطو على مدخرات المواطنين بوسائل افضت الى واقع اليم حقا، ان الذي يحكيه المواطنون عن آلامهم كثيرة ومن ذلك ان احدهم فقد مليارات ولم يحتمل المفاجأة، فأخلد إلى نوم أبدي في تلقائية، اما الذين اصابهم الشلل وغير ذلك من الامراض الطارئة فكثر، ويبقى السؤال اما من وسائل تنهي هذه المعاناة بمبادرات مهنية في سياق البحث عن سلام قابل للاستدامة بين الاطراف؟ ان البلاد تتجه بدعم مواطنيها الى استدامة السلام بحل كل النزاعات بما في ذلك النزاع في دارفور، وان هياكل الدولة ستتغير حتما خاصة الاقتصادية. اذ ان الاقاليم والولايات والمحليات ستكون ولا ريب اساس التنمية والاستثمار وان القدرات الخارجية لدعم التنمية اخذت تدرك القواعد المحتملة للاستثمار من خلال اتفاقيات السلام والدستور الانتقالي، لقد اصبحت المبادئ واضحة وفيها يقوم تقاسم وتوزيع الثروة على مبدأ ان جميع اجزاء السودان لها الحق في التنمية العادلة، اقرارا بتفشي الفقر، في السودان بصفة عامة، وفي دارفور بصفة خاصة. إن دارفور في حاجة ماسة وعاجلة لاعادة التأهيل واعادة الاعمار وتنمية البنى التحتية والاجتماعية والمادية المتضررة من جراء النزاع فيها والى ان يتم الوصول بتلك السياسات الى غاياتها الانسانية فان ثمة ضرورة لقيام مجموعة مهنية اقتصادية قانونية اجتماعية محلية ومستقلة لتقييم آثار الحرب الاقتصادية، المدمرة التي صاحبت النزاع العسكري المسلح في دارفور، بما في ذلك سوق المواسير، سوق التدمير للبنية الأساسية للاقتصاد الوطني وتحطيم القيم الاجتماعية النبيلة التي تجمع ما بين افراد المجتمع الدارفوري المتنوع القدرات.