الكتابة عن تجربة الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري لا يمكن أن تحاط بعدد قليل من المواقف والمشاهد والإفادات، فالكتابة عن دوره ومكانته في تاريخ السودان المعاصر تحيلك فوراً إلى معارف شتى وتجارب إنسانية غنية، فهي تجربة أطرها صانعها بثقافة سودانية موسوعية، وانتماء وطني متراكم، ودربة ومهارات على طرائق الحياة ودروبها الوعرة. ولم تقف تجربة الأزهري السياسية الفريدة عند إظهار ما رسمته من أدوار طوال عمره، أو الكشف عن مدى العزة التي عاشها صاحب التجربة في وطنه. ولعل الأزهري سعى إلى أن يصنع من تلك العزة لوحات تحاكي ما يرسمه الزول العادي وما يفكر به، وما يعيشه أيضاً من أحلام وكوابيس، وما يتخيله من حياة سعيدة، وأفكار قوية للتعبير عن فرحته بالحياة، وأمله في تحقيق ما يرغب في تحقيقه من استقلال وعزة واعتزاز بوطنه وأهله ودياره. ولا يغيب عن الذهن أن التأسيس لكتابة تتناول مناقب وآراء وأفكار الأزهري وخلاصة التأثير الذي خلفه في الحياة السياسية، تتطلب الالمام الدقيق بكل التفاصيل والأساطير والأحلام والأوهام التي تملأ الحياة السياسية لتيارات الحركة الوطنية بكل مسمياتها ومراحلها. ولعل المهم هنا، الإقرار بأن الأزهري في وسط كل البحار الاتحادية التي تئن فيها الرياح قد عرف كيف يصنع المركب والمجداف، وقطعاً كان هو الملاح الذي قاد سفينته إلى بر جعلها علامة متميزة في حياة أهل السودان. وهذا دون شك نجاح باهر بأي مقياس تنظر إليه، ويتعين علينا تجييره للحساب الشخصي للأزهري، إذ لا يخلو الأمر من تعقيد، فالحركات الاتحادية منذ نشأتها في أربعينيات القرن الماضي قد قادت بصورة مباشرة طلائع الوعي في البلاد، وعبرت في كثير من الأحيان عن بروز الطبقة الوسطى صمام الأمان في التجارب الديمقراطية التي عرفها العالم. وقياس النجاح هنا مرده صعوبة قيادة حركة بهذه المواصفات، ذلك أن عناصر التوحد والقوة هي نفسها عناصر التشتت والضعف، بغض النظر عن صدق أو سوء النوايا عند الجميع. ينحدر الأزهري من بيت كريم يتصل بالشيخ إسماعيل الولي الذي تنسب إليه الطريقة الإسماعيلية. وولد في بيت علم وفقه وتصوف وتقوى، وكان مولده في يوم 30/10/1900م. وقد سماه جده المكي بن الشيخ إسماعيل الولي اسم إسماعيل شيخ المعارف. ووالد الأزهري هو السيد أحمد بن الشيخ إسماعيل المفتي المعروف بإسماعيل الأزهري بن السيد أحمد الأزهري بن السيد إسماعيل الولي. ويعود ارتباط هذه الأسرة باسم الأزهري، إلى أن جدهم السيد أحمد بن السيد إسماعيل الولي قد درس بالأزهر الشريف حتى حصل على الشهادة العالمية، وهو أول من أطلق عليه لقب الأزهري من أسرتهم، وعمل بالتدريس في الأزهر لمدة أربعة أعوام. ورافق الأزهري الجد في رحلته لمصر إبن خاله الشيخ محمد البدوي وألحقه بالأزهر الشريف، وصار فيما بعد شيخ علماء السودان. ودرس السيد أحمد والد الأزهري بالأزهر الشريف، حيث حصل على الشهادة العالمية، وعمل بالقضاء الشرعي، وعند تقاعده بالمعاش التحق بالمعهد العلمي بأم درمان وعمل فيه معلماً حتى توفى في أواخر خمسينيات القرن الماضي. أما والدة الأزهري فهي السيدة ست البنات إسماعيل المفتي، وهي عمة السيد إبراهيم المفتي، وقد توفيت في عام 1939م. وعن أصول الأزهري تفيد مقدمة مخطوطة «خلاصة الاقتباس في اتصال نسبنا بالعباس» التي دونها السيد أحمد بن إسماعيل الولي «الأزهري الجد» في عام 1853م، أن تعلم «انساب الناس من العلم الذي علمه لا ينفع، وجهالته لا تضر، وبذل النفس في تحصيله من قبيل ضياع العمر». وهدف من تدوين المخطوطة إلى توضيح صلة رحم الذين ينسبون إلى جدهم الفقيه بشارة الغرباوي، واستجابة لرغبة أبيه إسماعيل الولي الذي كان مهتماً بتوثيق هذه الصلات الأسرية. وأرجع الأزهري الجد نسب والده السيِّد إسماعيل إلى عبد الله بن إسماعيل بن عبد الرحيم بابا بن الحاج حمد بن الفقيه بشارة الغرباوي. ويتصل نسب بشارة الغرباوي بجعل الدفار عند منحنى النيل، وهم أهل سيادة في المنطقة. وإن الجد الخامس لبشارة الغرباوي هو الملك ناصر بن صلاح بن موسى، الملقب بمسوا الكبير، الذي يعد الجد المؤسس ويقيم أحفاده الآن في منطقة قنتي ومنصوركتي ودبة الفقراء. واشتهر بشارة الغرباوي عن أسلافه ببركة الدين حتى صار أصلاً بالنسبة للسادة الإسماعيلية. وتأكيداً لمكانته الدينية في منطقة الدفار فقد أقطعه السلطان بادي بن السلطان نول «بادي أبو شلوخ» جاهاً من الأرض «لا عادة عليه ولا عانة ولا جباية ولا علوق ولا شيء قل أو جل من مضار السلطة، لا في الحضر ولا في السفر، إن شرقوا أو غربوا، فكل من تعرض له لا يلومن إلا نفسه، والحذر الحذر من الخلاف، والمخالف لا يلومن إلا نفسه». أما خلفية تسميته ببشارة الغرباوي، فتعود إلى أن بشارة كان من جملة تلاميذ الشيخ إبراهيم البولاد بن جابر، صاحب القصة المشهورة في طبقات ود ضيف الله، في جزيرة ترنج بأرض الشايقية، حيث برع في دراسة القرآن والفقه على مختصر خليل ورسالة أبي زيد القيرواني. ولحرص شيخه إبراهيم البولاد على تميزه عن بقية طلابه الذين يحملون نفس الاسم، أطلق عليه لقب بشارة الغرباوي، لأنه كان يسكن في منصوركتي غرب جزيرة ترنج، وكان يعبر النيل من جهة الغرب إلى الشرق. ويرتبط نسب الشيخ إسماعيل الولي من جهة والديه ببشارة الغرباوي، فوالدته هي ملكة الدار بنت إبراهيم بن عبد النبي بن الحاج حمد بن بشارة الغرباوي. وقد هاجر والده عبد الله إلى كردفان في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، ورزق ثلة من الذكور والإناث في الأبيض، أكثرهم شهرة ابنه إسماعيل الذي ولِد عام 1792م، وأخذ الطريقة الختمية من السيد محمد عثمان الميرغني «الختم» قبل أن يكمل العقد الثالث من عمره الباكر. غير أن السيد إسماعيل الولي ترك الطريقة الختمية، ووضع قواعد الطريقة الإسماعيلية التي تعد الطريقة الصوفية السودانية الوحيدة منشأً وقيادةً. وقاد السيد إسماعيل الولي المؤسس سجادة الطريقة الإسماعيلية بالأبيض إلى أن توفاه الله عام 1860م، وخلفه على ذات السجادة ابنه الأكبر السيد المكي الذي أحدث نقلة نوعية في البناء الهرمي للطريقة الإسماعيلية عبر تفعيل الأنشطة العرفانية، وربط الطريقة بخلفائها ومريديها في المركز والتخوم، وفي عهد السيِّد المكي أيضاً تم تشييد قبة الشيخ إسماعيل الولي، حيث نشأ حي القبة الشهير بمدينة الأبيض. رغم وضوح نسب وأصل الأزهري، إلا أن المماحكات السياسية، جعلت البعض يزعمون أن أصول الأزهري تعود إلى النازحين من بلاد تكرور. وكان هدف هذا الزعم حين هتف به صاحب صحيفة «الناس» المرحوم محمد مكي التقليل من مكانة الأزهري، ومن قيادته لحركة الخريجين والاتحاديين، بحسبان أن هذه الفرية بمقاييس تلك الأيام تقدح في شرعية انتسابه إلى أهل السودان الخلص، وتعتبره ضمن النازحين المحمولين على ظهور أمهاتهم إلى بلاد السودان الواسعة. أما زعم بعض المثقفين عند ترديدهم لفرية نسب الأزهري، بإلقاء اللوم على السير هارولد ماكمايكل، بوصفه أصول الأزهري بالفولانية أو «التكارنة»، فقد رد عليه بصورة وافية الدكتور أحمد إبراهيم شوك، بتأكيد أن «هذه الفرية ليست لها علاقة مباشرة بما ذهب إليه ماكمايكل، لأن ماكمايكل عندما نشر كتابه عن قبائل كردفان عام 1912م، كان عمر الأزهري آنذاك «12» عاماً. وعندما نشر تاريخ العرب في السودان عام 1922م كانت الحركة الوطنية في طور التخلق نطفة، وأن الأزهري لم يكن علماً يشار إليه بالبنان على المستوى السياسي القومي وصالونات الحركة الوطنية». وحول هذه الفرية لم يخف د. أبو شوك دهشته، حين يوضح أن السيِّد المكي توفي بعد عام من التحاق هارولد ماكمايكل بخدمة حكومة السودان عام 1905م، ولم يدركه ماكمايكل في الأبيض. وتوقف مستغرباً من حاشية مبهمة في كتاب عن قبائل شمال ووسط كردفان، تعطى القارئ انطباعاً بأن ماكمايكل قد عاصر السيد المكي، وعرف حقيقة نسبه إلى القبائل الفولانية. وينتهي د. أبو شوك إلى سؤال فحواه: لا أدري من أين جاء ماكمايكل بهذه الفرضية غير الموثقة؟ ويجيب: وإذا افترضنا جدلاً أن للسيد المكي صلة رحم فولاني من جهة أمه فهذا لا يقدح في حقيقة انتسابه إلى السادة الإسماعيلية وأرومتهم الدهمشية. ويتابع د. أبو شوك تفنيده «إذا كان مصدر جريدة الناس هو حاشية ماكمايكل، فإن السيّد المكي ليس الجد المباشر للزعيم إسماعيل الأزهري، فجده المباشر هو السيد أحمد بن إسماعيل الأزهري الذي ينتسب من جهة أمه السيدة زينب إلى الحاج محمد بشارة بن الأرباب سورج المرفوع نسبه إلى نصر الله بن صلاح بن الملك الدفاري مسوا الكبير». وينتهي د. أبو شوك إلى «أن كل الشواهد المُشار إليها تقدح في صدقية ما ذهب إليه ماكمايكل، وتصنف ما أوردته جريدة «الناس» في دائرة الخصومة السياسية التي لا تجرح انتساب الزعيم الأزهري إلى البديرية الدهمشية». ومع ذلك لم يغمط د. أبو شوك ماكمايكل حقه من البحث العلمي، فقد جمع بين دفتي كتابه «تاريخ العرب في السودان» كماً هائلاً من المعلومات الأولية المفيدة التي تسهم في تحليل الواقع السوداني آنذاك ومعرفة ملامح الشخصية السودانية. والشاهد على ذلك أن طعنه في نسب السيد المكي لم يمنعه من ترجمة مخطوطة خلاصة الاقتباس، الذي ألفه السيد أحمد بن إسماعيل الولي ومجد فيه أصوله الإسماعيلية، إلى اللغة الإنجليزية، وجعله ملحقاً في الجزء الثاني من تاريخ العرب في السودان. ويخلص د. أبو شوك إلى أن للباحثين الحق في أن يختلفوا مع الفرضيات التي أسس عليها ماكمايكل مفردات مشروعه «الباخس» لنسب المجموعات الجعلية وأصولها القرشية، وفي مكايداته السياسية للنخب المتعلمة في السودان، لكن هذا لا يمنعنا القول إن الرجل الأبيض العظيم، كما تنعته بعض الوثائق البريطانية، قد ترك أدبيات مهمة جديرة بالبحث والتنقيب. غير أن المهم أن السادة الإسماعيلية بنوا أمجادهم بنور العلم والمعرفة، وتركوا تراثاً علمياً زاخراً، رفده السيِّد إسماعيل الولي بأكثر من «80» مخطوطة، وسار على دربه السيّد المكي، وتبعه أحمد بن إسماعيل الأزهري صاحب المرافعة الجريئة في دحض مهدية محمد أحمد بن عبد الله، وتلاهما عبد القادر الكردفاني مؤلف كتاب «سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي»، وعلى ذات النسق ألف القاضي حسين سيد أحمد المفتي كتاباً قيماً سماه «تطور نظام القضاء في السودان». وعلى الناظر إلى هذا المجد العلمي للسادة الإسماعيلية أن ينتبه إلى أن حقيقة مهمة تتمثل في أن ظاهرة الكشف ليست غريبة على الفكر الصوفي السوداني أو على آبائه المؤسسين، فعلى سبيل المثال خرج السيد محمد عثمان الميرغني الختم على الناس بمجموعة فتح الرسول بإذن مباشر من المصطفى، إذ جاء في مقدمة المجموعة «وقفت بين يدي المصطفى «ص» واستأذنته فأذن، وسألته قبولها والزهراء والصاحبين بلامين، فأفادا بما لا تسمعه عقول السامعين». وألف الشيخ محمد الشيخ بن قمر الدين كتابه «أسنى المطالب في مختصر المناقب» حسب إفادته «في حضرة الأنبياء والأولياء المتقدمين والمتأخرين، وأن كلا منهم اتحفني باتحافات شريفة وأنوار لطيفة لم يسبقني عليها أحد في زماني وهنأوني كلهم وشكروا لي سعيي». أما الشيخ إسماعيل الولي فقد قال إنه ألف كتابه «مشارق شمس الأنوار في معنى عيون العلوم والأسرار» بأمر مباشر من الحضرة الإلهية، وفي حضور النبي «ص» في رؤية حقيقية. «نواصل »