جابت فرق مراقبة الانتخابات السودان شرقاً وغرباً ووسطاً وشمالاً وجنوباً وتكونت فرق المراقبة من كل أجناس الأرض كما يقول كاتبنا العظيم الطيب صالح: الروم والترك والفرس والهند والسند والزنج والأعراب بيضاً وصفراً وسوداً وسمراً وأضيف أنا (ولون زينب). ولم تدع هذه الفرق حجراً من أحجار الانتخابات دون أن ترفعه وترى ما تحته وخرج معظمهم فيما يمكن أن يلخص بعد شيء من اللولوة الطويلة التي تحرق الروح ب (أن الانتخابات مقبولة بشكل ما)... لكن طغا كالعادة على كل تقييم ما قاله الأقوياء وهم الأمريكان ممثلين - وإن ليس بشكل رسمي بمركز كارتر، والأوربيون بالبعثة الأوروبية المشتركة لمراقبة الانتخابات السودانية التي استبقت تقريرها بحركة درامية ضرورية وهي الانسحاب من دارفور لتجعل نار إدانة السودان هناك مستعرة، طغا القول الذي قاله هؤلاء وهو: إن الانتخابات لم ترق للمعايير العالمية يعني بلسان انجليزي أعجمي مترجم: «لم ترق لمعاييرنا لأننا وكما قال مغنينا من قبل (We are the world) نحن العالم!». هل كانوا يتوقعون أن ترقى انتخابات في بلد أفريقي - عربي منسوب للعالم الثالث والدول النامية إلى مراقي انتخاباتهم العالمية العالية... ولنفرض أنهم وجدوا أنها ترقى لها هل كانوا سيسلمون للسودان بذاك الارتقاء... أما كانوا سيستنكرون على السودان ارتقاءه ذلك المرتقى الصعب... خاصة وأن روح الطغيان التي تربطهم بأبي الحكم بن هشام واحدة... وذلك أنه لما رأى عبد الله بن مسعود النحيف القصير الطارئ على مكة يجثم على صدره هو المكي القرشي المخزومي ليذبحه في غزوة بدر قال كلمة ظل يقولها الطغاة على اختلاف الأزمان والأوطان: « لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم»! لاحظ أنه استكثر عليه وصف (راعي) فصغرها إلى (رويعي) وأردف كارتر قائلاً: ولكنني أظن أن دولاً كثيرة ستقبلها. إذن فقد سعد الرجل بانتخابات لا ترقى لمعاييره التي لا يحصلها (طائراً من طار) وهي مع ذلك مقبولة ... يعني مقبولة دون أن تنافس على ما لا يصح المنافسة عليه وهي معاييرهم التي هي معايير العالم الذي هو هم. المراقبة الدولية كحبة الكلوروكوين مرة وكريهة ولكن يبلعها المريض باختياره... المراقبة هي شيء يقول لك إنك قاصر وأنك متهم ولابد أن يشهد عليك الشهود ولكنها في نفس الوقت - في حال الانقسام الداخلي الحاد واليد الخارجية الخشنة الباطشة شء تقبله من أجل هؤلاء وأولئك حتى ولو قيل لك هذا الكلام الذي تتجرعه ولا تكاد تستيغه - لأنك على كل حال في موقف لا تحسد عليه. هل سمعتم أن انتخابات أمريكا راقبها المراقبون وحتى لو راقبها المراقبون هل كانت أخبار الرقابة أساسية بهذا الشكل الذي تسمعون عنه في الانتخابات العراقية أو الأفغانية أو السودانية... في أمريكا ما يطغى في الإعلام هو النتائج ومن فاز ومن سقط لكن عندنا هنا ما يطغى هو: ماذا قال المراقبون؟ لأن فوز من فاز وسقوط من سقط لا شيء إذا لم يوافق عليه المراقبون... هل ذلك إهانة للكرامة الوطنية؟ هل هو طعن في السيادة القومية؟ هل هو شك في استقلال الشعوب؟ لتكن الإجابة ما تكون ولكن يبقى أن المراقبة ضرورية برضى الراضي وسخط الساخط. هذا عالم الأقوياء فيه لا يخجلون أن تحتوي نشرة الأخبار المصورة الواحدة على اتفاق روسي أمريكي لتخفيض ترسانة الأسلحة النووية من مئات الرؤوس النووية وهو اقرار بامتلاكهم لهذا السلاح النووى الرهيب يلى ذلك مباشرا» خبر اتفاق روسيا وأمريكا على منع إيران من تطوير قدرتها النووية حتى لا تحصل (في المستقبل) على سلاح نووي. فإذا كان امتلاك السلاح النووي جرم وأمر مضر بالعالم فينبغي أن يمنع بالعقوبات فكيف يسيغ لمن يريد أن يوقع هذه العقوبات أن يعترف صراحة بأنه بالفعل يمتلك مئات الرؤوس من هذا السلاح الذي ينبغي أن لا يحصل عليه احد! مراقبة الانتخابات فكرة استبدادية ولكن لا بد للضعفاء من أن يحنوا رؤوسهم أمام الأعاصير العاتية المارة من فوقهم وإلا اقتلعتهم... وذلك هو حكم القوي على الضعيف، والله من وراء الجميع محيط.. يحيط بالقوى كما يحيط بالضعيف.