«لا توجد في هذا الكتاب مرارات أو عنتريات أو تصفية حسابات، بل هو سجل أمين لحياة خصبة مثمرة».. بهذه الكلمات السهلة البسيطة قدم أديبنا الراحل الطيب صالح لكتاب الأخ العزيز السفير أحمد محمد دياب الذي حمل عنوان «خواطر وذكريات دبلوماسية».. هذا الكتاب تكرم بإهدائه لي الأخ أحمد من مهجره في دولة قطر. ولعلَّ الطيب صالح كان محقاً تماماً حين قال«هذه الفصول الممتعة هي مزيج من الذكريات ولمحات من السيرة الذاتية ونظرات دقيقة متمعنة في تقلب الأحوال في السودان على امتداد أكثر من ثلاثين عاماً.. وقد وُفق الكاتب أيما توفيق أنه اتخذ أسلوباً سلساًً جميلاً يمتاز بالبساطة وروح الدعابة». نعم هي روح الدعابة، فقد حملني الكتاب على الضحك كالمجنون وأنا أسهر حتى الصباح في الأسبوع الماضي حتى فرغت من الكتاب كله. وفي عام 1966م انتقل السفير دياب للعمل بسفارة السودان بكينيا كأول محطة في مشواره الدبلوماسي. وكان سفير السودان في ذاك الوقت هو السيد محمد ميرغني مبارك الذي كان كما يقول الكاتب، بحكم عمله في الشرطة قبل التحاقه بالخارجية، يؤمن بالانضباط في المواعيد وتحمل المسؤولية، وله أسلوب لا يخلو من التحري في عمله الدبلوماسي، والموظف عنده متهم إلى أن تثبت براءته، ويمضي في القول: «لكن بعد فترة من العمل سوياً اكتشفت أن وراء هذه الشخصية الحديدية قلباً دافئاً وعامراً بالمشاعر الإنسانية، ولا أنسى أبداً مواقفه الأبوية نحوي في تلك الفترة، وحرصه على أن أتعلم وانجح في مهنتي». وتتجلى روح الدعابة عندما يلتقط الكاتب هذا التنازع في شخصية السيد السفير محمد ميرغني، حين أورد هذه السطور: «شعرت بحركة غير عادية في السفارة وأصوات غريبة في الممر الداخلي بالمكاتب، وقبل أن أغادر المكتب لأرى ماذا يحدث بدأ جرس التلفون يرن.. رفعت السماعة فإذا به السفير يطلب مني الحضور إلى مكتبه في الحال ومعي كل أعضاء السفارة. واتصلت بأعضاء السفارة وطلبت منهم التوجه إلى مكتب السفير، وعند دخولنا المكتب فوجئنا بوجود عدد من أفراد الشرطة الكينية وبعض الكلاب البوليسية، فأصابنا الذهول، وكان السفير يقف في وسط المكتب وبدا حازماً كأنه يدير معركة حربية.. وكان أعضاء السفارة إلى جانبي.. القنصل الأخ ميرغني سليمان خليل وكان برتبة بكباشي بالقوات المسلحة السودانية، إلى جانب الملحق الإداري والملحق المالي والسكرتيرة واثنين من المراسلات واثنين من السواقين واجتمع الجميع في مكتب السفير. وعندما اكتمل عددنا أفادنا السفير بأن شيئاً مريباً قد حدث، لأنه ترك حقيبته الخاصة بالسفر وبها بعض الأوراق وجواز السفر ونقود وذهب إلى الحمام، وعندما عاد وجد أن الحقيبة مفتوحة، فسألناه إذا كان هناك شئ مفقود، فأجاب بالنفي، فقلنا له لماذا هذا التجمع؟ فقال لكي أعرف من الذي فتح الحقيبة.. وقرر أن يجري لنا جميعاً كشف البصمة.. وكدنا ننفجر من الاستياء خاصة الأخ ميرغني سليمان الذي خلع وظيفته الدبلوماسية وبدا يتكلم بأسلوب بين الجد والهزل مع السفير، عندما ذكر له انه عسكري بكباشي يعني زي عبد الناصر، لذا يجب أن يعفى من إجراء الكشف، ولكن محمد ميرغني لم يتزحزح عن موقفه وبالفعل تم الكشف علينا جميعاً. وبعد ذلك فشل البوليس في معرفة من فتح الحقيبة، وكان قرار المتحري انها فتحت بضغط ذاتي، ولكن السفير لم يقتنع وقام بتأجيل سفره، وأرسل برقية شفرة الى رئاسة الوزارة بتفاصيل الحادث، ولكن الشيء الذي لم يذكره في البرقية انه أخضع كل أعضاء السفارة الى كشف بوليسي دقيق لا يتناسب مع الجريمة ولا مع وضعهم الدبلوماسي خاصةً، وقد قام بتلك الإجراءات بوليس الدولة المضيفة مما يتنافى مع القوانين والأعراف الدبلوماسية، إضافة إلى ذلك فقد قام في نفس اليوم بفصل المراسلات والسواقين كإجراءات وقائية. وكانت ذلك أحد مواقف السفير محمد ميرغني التي تجلت فيها شخصيته البوليسية التي كانت تعيش داخل شخصيته الدبلوماسية في أغلب الأحيان، ويبدو أنه في ذلك اليوم كان سعيداً لأنه خلع وظيفته الدبلوماسية وعاد الى شخصية البوليس، ومارس مهنته المفضلة بكل تفاصيلها».