الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    عملية منظار لكردمان وإصابة لجبريل    بيانٌ من الاتحاد السودانى لكرة القدم    الكتلة الديمقراطية تقبل عضوية تنظيمات جديدة    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحصانة في الشريعة الإسلامية (4)
نشر في الصحافة يوم 30 - 04 - 2013


الحصانة عن المساءلة الجنائية لرأس الدولة:
تحدثنا عن مسؤولية الحاكم الجنائية عن خطئه وعمده وعن تحمله الدية وآراء الفقهاء فى ذلك الحاكم، وهنا قد يكون الحاكم الإمام أو القاضى أو الوالى أو الأمير أو الوزير أو المحتسب ... الخ..
ونتحدث هنا عن مسؤولية رأس الدولة الجنائية باعتباره الحاكم الأول أو الإمام الأعظم، أو الذى ليس فوقه أمام حسب قول الحنفية.
فهل هناك حصانة عن المساءلة الجنائية بهذا الاعتبار؟
يقول تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» «54»، ويقول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى»، ويقول الله تعالى: «ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ٭ فلا يسرف فى القتل»، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم «كلكم لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «والناس سواسية كأسنان المشط» «55».
وعندما هم سيدنا عمر رضى الله عنه بضرب رجل له دين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ عليه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «صه يا عمر كنت أحوج أن تأمرنى بالوفاء وكان أحوج أن تأمره بالصبر»، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء مرضه الأخير وجلس على المنبر فقال «يا أيها الناس من كنت قد جلدت له ظهراً فهذا ظهرى يستفد منه، ومن كنت قد شتمت له عرضاً هذا عرضي فليستفد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالى فليأخذ منه، ولا يخشى الشحناء من قبلى فإنها ليست من شأنى الا وان أحبكم الى من أخذ منى حقاً ان كان له أو حللنى فلقيت ربى وأنا طيب النفس» «56».
وقد سار الخلفاء الراشدون على هدى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعطون القود من أنفسهم، وقد قال سيدنا أبو بكر يوم تولى الخلافة: «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى، وقال أيضاً أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم» «57».
وقد ذكر النعمان أن سيدنا عمر رضى الله عنه قد أعطى القود من نفسه أكثر من مرة وسئل عن ذلك فقال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى القود من نفسه وأنا أعطى القود من نفسى» «58».
يقول الأستاذ عبد القادر عودة: «تسوى الشرعية الإسلامية بين رؤساء الدول والرعايا فى سريان القانون ومسؤولية الجميع عن جرائمهم، ومن أجل ذلك كان رؤساء الدول أشخاصاً لا قداسة لهم ولا يمتازون عن غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة يعاقب عليها كما يعاقب أي فرد» «59».
لذا فإن الشخص الحاكم يتساوى مع كل الناس، فليس للحاكم مهما يعلو منصبه شخصية مصونة لا تمس، إنما يساوى شخصه مع جميع الناس وجميع الحقوق والواجبات، وقد أتفق الفقهاء على استحقاقه الحد. وأجمع العلماء على أن السلطان يقتص من نفسه أن تعدى على أحد الرعية ظلماً، اذ هو واحد منهم وانما له ميزة النظر لهم كالوصى والوكيل وذلك لا يمنع القصاص منه «60».
وليس بين السلطان والعامة فرق فى أحكام الله عز وجل، جاء فى تبصرة الحكام فى عقوبة القاضى اذا حكم بالجور «وعلى القاضى إذا أقر بالجور أو ثبت عليه ببينات أن يعزل وشهر به ولا تجوز ولايته» «61».
محاسبة الحاكم:
تسوي مبادئ الشريعة الإسلامية بين الناس جميعاً فى القانون الذى يطبق عليها، وتسوى بينهم فى القضاء الذى يمثلون أمامه، فالقضاء فى الشريعة الإسلامية واحد للناس جميعاً، ولا تعرف الشريعة الإسلامية نظام المحاكم الخاصة فى تشكيلها أو الخاصة فى إجراءاتها كما تعرفه القوانين الوضعية، لذلك كان الخلفاء ورعاياهم من المسلمين أو غير المسلمين يمتثلون أمام القاضى الذى يمتثل أمامه عامة الناس «62».
كما أن للأمة الحق فى مساءلة الحاكم ومحاسبته بقوله تعالى: «فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله». ويقول تعالى: «وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد» «63».
إن هذه النصوص تثبت المبادئ المتعلقة بنظام الحكم والتى فيها مسؤولية الحاكم خليفة كان أو إماماً أو رئيساً للدولة، ومبدأ المساءلة هذا لم تعرفه الأنظمة الوضعية إلا أخيراً، فكان الحكام يعتبرون أنفسهم مفوضين فى حكم الشعب من قبل الآلهة ولا يسألون عما يفعلون «64».
ويعتبر الأستاذ محمد سليم العوا أن حق الأمة فى محاسبة الحاكم يدل على عدم إحاطته بأى قدر من الحصانة، لأن الأمة واجب عليها القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر «65»، لأن المهمة الإسلامية للحاكم هى رعاية شؤون الأمة لأنه ما نُصب إلا لذلك فإذا قصر فى هذه الرعاية وجبت محاسبته، فالشرع جعل للمسلمين الحق فى محاسبة الحاكم، وجعل المحاسبة على المسلمين فرض كفاية، فالسلطان للأمة وهى قوامة عليه، ويلزمها الإنكار على ما يقصر به فى مسؤولياته أو يسىء فى تصرفاته.
فقد روى الإمام مسلم عن أم سلمة رضى الله عنها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ستكونون أمراء فتعرفون وتنكرون.. فمن عرف برىء ومن أنكر سلم، ولكن من رضى وتابع قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا» «66».
فالمسلمون جميعاً يجب عليهم أن يحاسبوا الحاكم ويكونون آثمين إذا رضوا بأعمال الحاكم الذى تنكر وتابعوه عليها. وقد بلغ الإسلام الذروة فى الإنكار على الحاكم حتى أنه دعا إلى مقاومته بالوسائل المادية وعد من يموت بسبب محاسبة الحاكم شهيداً، فعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال: دعانى النبى صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال: فيما اخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان «67».
فالأمة تستقيم للحكام ما استقاموا لها، فإذا لم يفعلوا فالشرع يطالب المسلمين بمعصيتهم وعدم طاعتهم، فمحاسبة الحاكم فرض على المسلمين ولو أدى ذلك إلى القتال لأن الإسلام دعا إلى حمل السلاح دفاعاً عن سلطان الأمة لتكون السيادة فى الحياة السياسية فى الشرع، فجهاد الحكام الظلمة ليكفوا عن ظلمهم واجب، بل أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر «68».
فمسؤولية الخليفة أو رأس الدولة مزدوجة، فهو مسؤول أمام الأمة وهو مسؤول أمام الله «69».
واضح أنه لا حصانة للحاكم أو رأس الدولة الإسلامية إجرائية أو موضوعية، وهو كسائر الناس تقام عليه العقوبات ويقدم للمحاكمة فى كل جرم أتاه، وهو مسؤول عن خطئه وعمده ويحاسب على تقصيره فى الحكم، وهذا يخالف الأحكام الخاصة بجواز مساءلة رئيس الدولة فى أنظمة الحكم المعاصرة أو عدم مساءلته.
فبعض دساتير الدول المعاصرة تقرر أن رأس الدولة ليس محلاً للمؤاخذة عن تصرفاته وأعماله ولو بلغت تلك التصرفات خرق القانون، حيث كان الدستور المصرى حتى عام 1923م يقرر أن ذات الملك مصونة لا تمس، وبعض الدساتير تنص على عدم مساءلة رأس الدولة إلا فى حالة الخيانة العظمى، وبعض الدساتير تنص على جواز المساءلة، إلا أنه فى الآونة الأخيرة اتجهت معظم الدول الحديثة والجمهورية منها بصفة خاصة إلى جواز مساءلة رأس الدولة عن أخطائه، ولكنها وضعت لذلك حصانات كثيرة، منها ألا تتم المساءلة إلا عن طريق المجلس النيابى وبأغلبية معينة، ويصدر بها قرار، وتشكل محكمة خاصة، وتكون المحاكمة سرية .. الخ.
وتحدثنا فى الفصل الأول وفى المبحث الأول من هذا البحث عن موقف الفقه الإسلامى من الحصانة من تدابير المساءلة، فاتضح أنه لا حصانة لأحد من تدابير المساءلة الجنائية وهذا ينطبق بالطبع على رأس الدولة، فلا حصانة له في ما يتعلق بتدابير المساءلة الجنائية.
وعرفنا أن الحاكم يقدم للمحاكمة كسائر الناس ويسأل جنائياً عن خطئه وعمده، ويبقى بعد ذلك السؤال القائم الذى يطرح نفسه من الذى يحاكم الحاكم؟ القاضى أم غيره؟ وكيف؟
محاكمة الحاكم:
فالقاضى هو نائب عن الإمام والإمام هو الذى عينه، يقول الماوردى فى الأحكام السلطانية إن الخليفة أو السلطان هو الذى يعين القاضى، فهو يستمد ولاية القضاء من الخليفة الذي عينه لأنه نائب عنه فى القضاء ووكيله فيه، والقاعدة أن قضاء الوكيل لموكله غير جائز.. فهل يترتب على هذا التكيف عدم ولاية القاضى فى نظر خصومة الخليفة سواء أكان مدعياً أو مدعى عليه، مادام هذا الخليفة أو السلطان هو الذى عينه فى دعاويه سواء أكان مدعياً أو مدعى عليه، بالرغم من أنه هو الذى عين هذا القاضى، فإذا أراد الإمام محاكمة خصمه جاز أن يحاكمه إلى قضاته لأنهم ولاة فى حقوق المسلمين وإن صدرت عنه ولايتهم «70».
وتؤيد ذلك السوابق القديمة، حيث أن علياً رضى الله عنه قلد شريحاً القضاء وخاصم عنده فى واقعة، وأن يهودياً رفع دعواه على هارون الرشيد أمام القاضى أبو يوسف، فسمع أبو يوسف خصومة اليهودى عليه مع أن هارون الرشيد هو الذى عين أبا يوسف فى وطيفة القضاء «70».
والقول أن القاضى يعتبر نائباً عن السلطان ومنه يستمد ولايته فى القضاء وإلى قضاء النائب أو الوكيل لموكله غير جائز، وهذا كله لا يدل على سلب القاضى ولايته على دعاوى السطان ذلك، أو قولنا أن القاضى نائب عن السلطان الذى عينه يعنى أنه نائب عنه فى القيام بواجب القضاء وليس هو نائب عنه فى حق خالص بالخليفة، فنيابته عن الخليفة إذن ليس مثل نيابة الأفراد فيما بينهم فى حقوقهم الخاصة، فلا تنطبق عليهم قاعدة قضاء الوكيل لموكله، أما استمداد القاضى ولايته من الخليفة الذى عينه فإذا هذا الإستمداد فى الحقيقة هو عن عامة المسلمين الذين اختاروا الخليفة وصار يمثلهم فى حقوقهم ومنها حقهم فى ولاية القضاء، فإذا قلنا إن القاضى يستمد ولايته من الخليفة الذى عينه فإن هذا القول يصح باعتبار أن الخليفة يمثل عامة المسلمين، وأنه فى تعيينه للقاضى يكشف عن إرادتهم فى هذا التعيين وهو بمنزلة الرسول عنه فى تنفيذه القضاء لمستحقيه أو هو بمنزلة النائب عن عامة المسلمين فى استعمال حقهم فى ولاية القضاء وتقليده للآخرين «72».
وعلى هذا التكييف لا مانع من أن يقضى القاضى فى خصومة الخليفة، لأنه يقضى بولاية عامة المسلمين ويفصل فى حقوقهما «73».
يقول الأستاذ عبد القادر عودة قد جرى العمل فى الشريعة الإسلامية على محاكمة الخلفاء والملوك والولاة أمام القضاء العادى وبالطريق العادى، فهذا هو على بن أبى طالب فى خلافته يفقد درعاً له ويجدها مع يهودى يدعى ملكيتها، فيرفع أمره الى القاضى فيحكم لصالح اليهودى ضد على. وهذا هو المغيرة والى الكوفة يتهم بالزنا فيحاكم على الجريمة المنسوبة اليه بالطريق العادى، ويقص علينا التاريخ أن المأمون وهو خليفة المسلمين اختصم مع رجل بين يدى يحيى بن أكثم قاضى بغداد، فدخل المأمون الى مجلس يحيى وخلفه قادم يحمل طنفسه لجلوس الخليفة، فرفض يحيى أن يميز الخليفة على أحد أفراد رعيته، وقال يا أمير المؤمنين لا تأخذ على صاحبك شرف المجلس دونه، فأستحيا المأمون ودعا للرجل بطنفسة أخرى، وبعض الخصومات التى كانت تثور بين الخليفة والولاة وبين الأفراد كانت تقضى بطريق شرعى بحت «هو التحكيم» كما فعل عمر بن الخطاب، فقد أخذ فرساً من رجل على سوم فحمل عليه فعطب، فخاصم الرجل عمر، فقال عمر إجعل بينى وبينك رجلاً، فقال الرجل إنى أرضى بشريح العراقى، فقال شريح لعمر أخذته صحيحاً سليماً فأنت له ضامن حتى ترده صحيحاً، وكان هذا الحكم الذى صدر ضد عمر هو الذى حفز عمر لتعيين شريح قاضياً «74». وهذا هو أبو بكر رضى الله عنه يوم بويع بالخلافة يصعد المنبر فيقول يا أيها الناس قد وليت عليكم وليس بخيركم أن احسنت فأعينونى وأن أساءت فقومونى أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم «75». وهذا عمر بن الخطاب يعلن «أيها الناس إنى ما أرسل اليكم عمالاً ليضربوا ابشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلتهم اليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به شىء سوى ذلك فليرفعه إلىّ، فوالذى نفس عمر بيده لأقتصن منه»، فوثب عمر بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أرأيت أن كان رجل من المسلمين على رعيته قارب بعض رعيته اذن لتقصيه منه؟ فقال أى والذى نفس عمر بيده إذن لأقتصن منه، وكيف لا أقتص منه وقد رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه «76».
هذا هو النبى صلى الله عليه وسلم المبعوث بالحق يقتص من نفسه كما أشار سيدنا عمر، وقد أشرنا إلى هذا فى أجزاء متفرقة من هذا البحث، وهذا يكفى وحده بأنه لا حصانة لأحد فى الفقه اللإسلامى إماماً كان أو غيره.
هذا هو الإسلام ويستوى فيه بالنظر الى عقيدته وشريعته جميع بنى الانسان، وتطالب به جميع الأجناس والطوائف دون نظر إلى ما بينهم من فروق شخصية كذكورة وأنوثة وبياض وسواد أو فروق اجتماعية كرئاسة ومرؤوسية وحاكمة ومحكومية وغنى وفقر ودرجات القرب من الله تتبع درجات القوة فى الإيمان والاستقامة على الشريعة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اله أتقاكم». ويقول تعالى: «ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سواءً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ٭ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً».«77»
تنفيذ الأحكام على الإمام الأعظم:
سبق الحديث عن مسؤولية الحاكم والولاة والأمراء ما دون الإمام الأعظم أو رأس الدولة. ويتضح بأنه لا حصانة لهم عن المساءلة الجنائية وتنفذ عليهم الأحكام كسائر الآخرين، ولا حصانة لأحد ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء. كما أنه لا خلاف بين الفقهاء فى أن الإمام الأعظم هو الذى ليس فوقه إمام. واستعمال عبارة «الأمام الأعظم» يقصد بها هنا تمييزه عن بقية الحكام من دونه، لأن لفظ حاكم تطلق ويراد بها الحاكم ما دون الإمام كالوالى أو الحاكم أو الأمير، ولا خلاف بين الفقهاء أن الأمام الأعظم لا حصانة له من المساءلة الجنائية فهو كسائر الآخرين يسأل عن خطئه أو عمده سواء ما ارتكب ما يوجب الحد أو القصاص أو التعازير، واستدلوا بذلك بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وقد تبين ذلك فى مواضيع سابقة من هذا البحث «78».
إلا أنهم بالرغم من هذا الاتفاق بين الفقهاء اختلفوا فى تنفيذ الأحكام على الإمام الأعظم فى ما يتعلق بتنفيذ الحد عليه، فيرى أبو حنيفة أن الإمام مسؤول عن كل جريمة ارتكبها سواء تعلقت بحق الله أو بحق الفرد، لأن النصوص عامة والجرائم محرمة على الكافة بما فيهم الإمام، ومعاقب عليها من ارتكبها ولو كان الإمام، ولا ينظر هؤلاء الأئمة إلى إمكان تنفيذ العقوبة كما ينظر الحنفية، لأن تنفيذ العقوبات ليس للإمام وحده وإنما له من ينوبون عنه ممن لهم تنفيذ هذه العقوبة «79».
هوامش :
«54» سورة الحجرات الاية «13»
«55» على محمد بن حسن الشيبانى « الكامل فى التاريخ» تاريخ ابن الأثير، طبعة المنيرة الأولى، مطبعة مصر ص 154 ن ج2.
«56» الإمام الحافظ أبى عبد الله بن قيم الجوزية: زاد المعاد فى هدى خير العباد، الجزء الأول الطبعة 1353، مطبعة محمد على صبحى، القاهرة، ص 59.
«57» تاريخ ابن الأثير ج2، مرجع سابق، ص 16.
«58» الاستاذ ابن الأثير ج 3، المرجع السابق، ص 30.
«59» الأستاذ عبد القادر عودة: التشريع الجنائى الإسلامى، مرجع سابق، ص 317.
«60» أبو زهرة: الجريمة والعقاب، مرجع سابق، ص 297.
«61» القاضى برهان الدين إبراهيم بن على بن أبى القاسم بن محمد بن فرحون المالكى المدنى: تبصرة الحكام فى أصول الأقضية ومناهج الأحكام. «719 799» الجزء الأول، راجعه وقدم له طه عبدالرؤوف سعد، مطبعة الكليات الأزهرية القاهرة الطبعة الاولى، ج1 ص 308.
«62» عبد الوهاب خلاف: السياسة الشرعية، مطبعة القاهرة 1931م ص 40.
«63» سورة البقرة الآية «205».
«64» حازم عبد المتعال: الإسلام والخلافة فى عصر الحديث، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، ص 167.
«65» محمد سليم العوا: النظام السياسى للدولة الإسلامية، مطبعة دار الشرق، طبعة 1989م، ص 232.
«66» حديث صحيح مسلم رواه الإمام مسلم «الجامع الصحيح» لأبى الحسن مسلم بن الحجاج، مطبعة عيس البابى الحلبى، القاهرة، الطبعة الأولى الجزء الخامس.
«67» حديث صحيح رواه البخارى ومسلم والإمام: الإمام أحمد وقال الشوكانى، متفق عليه.
«68» د. محمد الخالدى: معالم الخلافة فى الفكر السياسى الإسلامى، مطبعة دار الجيل ببيروت 1989م، ص 353.
«69» عبد الوهاب خلاف: السياسة الشرعية، ص 28.
«70» الماوردى: أدب القاضى، تحقيق هلال السرحانى، مطبعة الإرشاد بغداد، الطبعة الأولى 1971م ص 417.
«70» الإمام محمد بن محمد بن شهاب المعروف بابن البزاز: الفتاوى الهندية وبهامشة الفتاوى البزازية وهى المسماة بالجمع الوجيز «المتوفى 827» الطبعة الثانية 1310 بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، مصر ج3، ص 319.
«72» الخصاف أدب القاضى وشرحه ابن مازة ج3، ص 263 264.
«73» الأستاذ عبد القادر عودة: التشريع الجنائى الإسلامى، مرجع سابق، ص «19 20»
«74» تاريخ ابن الأثير ج2، ص 160، مرجع سابق.
«75» علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاسانى «587»: بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع، الطبعة الثانية 1406 دار الكتب العلمية بيروت ج7، ص 116.
«76» محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة الإمام الاكبر دار الشروق الطبعة الثانية عشرة 1983م، ص 12.
«77» سورة النساء «123 124»
«78» القاضى أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبو حنيفة «113 182»: الخراج، اعتمدت هذه الطبعة على نسخطة مخطوطة فى خزانة التموية مع مقارنتها بطبعة بولاق 1352، ص 66.
«79» الأستاذ عبد القادر عودة: التشريع الجنائى الإسلامى، مرجع سابق، ص 320 321م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.