يوكوهاما يقلب خسارته أمام العين إلى فوز في ذهاب نهائي "آسيا"    برباعية نظيفة.. مانشستر سيتي يستعيد صدارة الدوري الإنكليزي مؤقتًا    ريال مدريد ينهي خلافه مع مبابي    هل يمكن الوثوق بالذكاء الاصطناعي؟.. بحث يكشف قدرات مقلقة في الخداع    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أنشيلوتي: فينيسيوس قريب من الكرة الذهبية    حمّور زيادة يكتب: ما يتبقّى للسودانيين بعد الحرب    هجوم مليشيا التمرد الجمعة علي مدينة الفاشر يحمل الرقم 50 .. نعم 50 هجوماً فاشلاً منذ بداية تمردهم في دارفور    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    مخرجو السينما المصرية    تدني مستوى الحوار العام    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    الأمن، وقانون جهاز المخابرات العامة    مرة اخري لأبناء البطانة بالمليشيا: أرفعوا ايديكم    الكابتن الهادي آدم في تصريحات مثيرة...هذه أبرز الصعوبات التي ستواجه الأحمر في تمهيدي الأبطال    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات: رواية: حرب الأنهار أو «أنا وسيلفيا الهولندية» حلقة «5»
نشر في الصحافة يوم 13 - 07 - 2013


: 1-6
هانقلو مدينة هولندية صغيرة في شكل قرية كبيرة وادعة تقع عدة كيلومترات من مدينة إنشخيدا في منطقة أوفرآيسل على الحدود الغربية لألمانيا. في تلك الناحية من الأرض ولدت وعاشت سيلفيا كل مراحل حياتها قبل أن تنتقل للدراسة الجامعية بمدينة نايميخن ثم اخيراً آرنهم المكان الذي أقمنا به عيشنا المشترك على ضفاف نهر الراين.
كانت أول زيارة إلى أسرة سيلفيا مشحونة بالأحداث والقلق والمزيد. أخذنا القطار من محطة آرنهم الرئيسة عند السادسة مساءا. كان هدف سيلفيا تعريفي بوالديها الذين يعيشان في هانلقو بجانب إبنتهم الصغرى فلورا.
والدا سيلفيا بالمعاش منذ بضع سنوات. والدها مارسيل فان دا ليندا عمل محاسباً ببنك «إبينآمرو» خمساً وعشرين عاماً. والدتها هينكا باكار عملت أستاذة تاريخ بالمراحل الثانوية قبل أن تذهب إلى المعاش الإختياري قبل سنتين. فلورا عمرها سبعة عشر عاماً تدرس إدارة الأعمال بجامعة إنشخيدا.
بدأت سيلفيا أكثر جدية حينما جاء دور الحديث عن والدها بينما القطار شارف على إنجاز نصف المسافة في طريقه إلى هانقلو حيث ستحدث المفاجئة بالنسبة لوالدي سيلفيا. ذاك أنني سأكون أول كائن من الشرق يدخل منزل أسرة فان دا ليندا العريقة على وجه الإطلاق. كما أول مخلوق من الفضاء يعشق احدى حفيدات فان دا ليندا على مر التاريخ المعلوم. أزاحت سيلفيا بغتة رأسها عن صدري ثم جهدت في إزاحة شعرها الذي تدفق فوق عينيها وأخيراً أزاحت إبتسامة شهية عن شفتيها وبدت جدية إذ قالت: «أبي في العادة ليس بلطيف، لكنه متفهم». ورددت: « لا بد أن يتفهم»!.
«كان فان دا ليندا الجد المباشر لأسرتي جندياً في الجيش الهولندي وكان كاثوليكياً صارماً ووطنياً من الطراز الفريد قتل في العام 1942 على يد اليابانيين قبالة الشواطي الشرقية من جزر الهند الهولندية». ثم وضعت سيلفيا رأسها من جديد على صدري بينما هي تخبرني: «أمي سهلة ومتفهمة ولطيفة وفلورا في العادة لا تهتم كثيراً بالإمور إلا ما يخصها» .
وإذ صمتت سيلفيا لوهلة وشرعت في بعض السبات شابكة أصابع يدها اليمنى في أصابه يدي اليسري أخذت أنا أمارس هوايتي المفضلة في تأمل المشاهد المتحولة عبر نافذة القطار. كان القطار تلك الأثناء قد عبر مدينة آلميلو في طريقه الذي تقاصر إلى هانلقو حيث ينظرني القلق!. كانت البيوت المثلثة الحمراء ذات المداخن العلوية السامقة تعبر عينيي مسرعة خلف القطار وكأنها ترفض تفحصي لها لكنني كنت على أي حال قادر على النفاذ إلى داخلها ورؤية بعض الأشباح البشرية عبر النوافذ الزجاجية المشرعة على الفضاء دون غطاء. وفي الوقت الذي بدأ رازاز المطر يبلل نافذة القطار فيغبش رؤيتي وكأنه يعاند شهيتي في التأمل كنا قد وصلنا إلى وجهتنا المأمولة.
كانت فلورا تنظرنا في محطة قطارات هانقلو. كانت مشرقة، حيوية وجميلة مثل سيلفيا تماماً لكنها بدت مثلما حدثتني سيلفيا، لا تهتم!. وضعت سيلفيا حقيبتها الجلدية السميكة على الزاوية الداخلية اليمنى من المدخل بينما أنا حتى تلك اللحظة ما أزال مثقلاً بثلاثة باقات ورد وقنينة واين أحمر جاءت هينكا تحييني فوضعت محمولاتي على الطاولة الأمامية من صحن الدار ومددت يدي إليها وبينما هي تنظر إلى وجهي دهشة كانت يدها في يدي وهي تردد متمتة: «مرحباً بك». عندما أكتمل عبوري إلى موقع الجلوس من المنزل وجدت سيلفيا قد سبقتني تعانق والدها مارسيل بينما هي تلتفت ناحيتي فتخبر مارسيل بمعلومة محققة ويقينية : «ذا هو صديقي». فحياني مارسيل بطريقة رسمية بها كثير من البرود داعيني إلى التفضل بالجلوس على أحد المقاعد الشاغرة ناحية اليسار حيث جلسا هو و هينكا عدة أمتار من أمامي. مضت سيلفيا إلى التوليت لوهلة فكان صمت، فأزداد إحساسي بالغربة، ثم عادت سيلفيا فأشتبكت مع والدها بالكلمات بطريقة لم أستطع فهمها آنها وشرعت في بكاء مر. فأحترت جداً ماذا أفعل بينما أنا لا أعرف معنى الحكاية بشكل يقيني بدا شعوري القديم المتكلس في الأعماق يخبرني أنني مرفوض لدى هذه الأسرة وتوجب علي أن أغادر وترك سيلفيا مع أهلها والرجوع فوراً إلى بيتي في آرنهم دون أن أتسبب في مشاكل لنفسي أو الآخرين. غير أن الامر في نهاية المطاف لم يكن أبداً بالسوء الذي توقعته أول وهلة.
2-6
نمنا طويلاً أنا وسيلفيا في الطابق العلوي من الدار إذ كنا نتعانق حتى آخر الليل. ليس ذاك فحسب بل بعد أن هدأت أنفاس سيلفيا أخذت لبعض الوقت أعاين الحيطان الأربعة وأتأمل ألوانها الغامضة وأقلب دمى بالية كلمتني سيلفيا قبل نومها بقليل أنها لها حينما كانت بنت أربع سنوات. ثم رفعت دفتر قديم بدا لي وكأنه يحوى ذاكرة ما من تاريخ سيلفيا، لكنى لم أقو على فتحه. خفت!. كنت لهنيهة أتجسس على ماضي سيلفيا في إحساس فريد لا يمكن إستكناهه!.
عند الظهيرة أخذت سيلفيا دراجة والدها الهوائية نركبها معاً لتعرفني على بعض معالم المدينة الجميلة فذهبت بي من ضمنه إلى زقاق قديم في الناحية الغربية من المدينة ذكرني بأحياء بحي الثورة من أم درمان. وفي طريق عودتنا أخذت سيلفيا مني زمام القيادة وركبت من خلفها أطوقها بساعدي الأيسر ناحية خصرها وافتعل الفرص للإلتصاق عليها من الخلف وهي تسعد فتترجرج الدراجة كل مرة من المرات إذ تفشل سيلفيا في قيادتها بالطريقة المثلى. وعند إقترابنا من المنزل حدث أمر غير سار إذ أنكسر بدال الدراجة فأبتأس مارسيل كل البؤس لكنه سامحنا على فعلتنا تلك وكأنه يشترط على سيلفيا بغير كلمات سماحه على بعض سوء إستقباله لي مساء الأمس وأنا صديقها المحبب وخيارها الذي أختارت. وحدث في المساء ما هو أسوأ. أخرج مارسيل قنينة واين أحمر من قنانيه المعتقة على شرفي بعد أن تأكد من بعض مهاراتي في لعبة الشطرنج أحد هواياته المفضلة حيث وفقت في هزيمته ست مرات متتاليات وكان يبدو أنه يخطط بغير كلل في دخيلته إلى رد إعتباره البطولي الجريح. وبينما كانت سيلفيا تعلن عن فرحتها أثناء تقدمي في الجولة السابعة نهضت أنا مرة في طريقي إلى التوليت فضربت الطاولة بغير وعي مني بركبتي اليمني فقفز كأس مارسيل من الواين الأحمر فأندلق نصفه على بنطاله ونصفه الآخر على الأرض فتمتم مارسيل مبتئساُ بينما مضت سيلفيا مرتبكة إلى المطبخ وعادت ببعض ملح الطعام تدلك به بنطال أبيها وترجوه تغييره في الحال بينما هي تحاول طمأنته أن كل شيء سيكون على ما يرام وأنا كنت في غاية الحرج. مرت عدة أشهر لم ألتقي السيد مارسيل من جديد كي نمارس هوايتنا الوحيدة المشتركة إذ ذهبنا أنا وسيلفيا في رحلة عمل إلى مدينة هانوفر الألمانية وعندما عدنا كنا أكثر إنشغالاً بذواتا مما مضى.
3-6
مكثنا أنا وسيلفيا في الزيارة الأولى ثلاثة أيام في دار فان دا ليندا أستطعت خلالها وبجدارة فائقة أن أجعل من نفسي أمرأً واقعاً لدى الأسرة. كانت أجمل اللحظات التي شعرها الكل عند العشاء الأخير، إذ تحلقنا حول المائدة فوجدت سانحة موفقة بترتيب خفي من سيلفيا فحدثت القوم عني وعن جزيرة أم أرضة وعن الناس والأشجار والسحر والتماسيح والتاريخ والرجل الغريب الميت والمزيد. قصصت عليهم حكايات شاطي الكتيب يوم توجني أبي ملكاً على النيل. فأهتمت فلورا لأول مرة غاية الإهتمام بالقصص وبي. وعندما وصلت حكاية كورس التماسيح رويتها بطريقة فكاهية فضحكت سيلفيا حتى سقط رأسها على كتفي فأصابت الجميع بالعدوى فضحك الكل بشكل تلقائي. عندها ألتفتت فلورا إلى الأب مارسيل مؤشرة بيدها ناحيتي وسيلفيا « هم سعداء جداً» فأكتفى مارسيل بنصف إبتسامة لا تخلو من رضى بينما هو يجهد في تقطيع شريحة سمكة مشوية إلى نصفين.
عند الفراغ من العشاء مباشرة بدأنا نجمع الأطباق ونعيدها إلى حوض الغسيل بالمطبخ وعندما جاء دوري وكنت آخر من جاء بصحنه فوضعته فوق أطباق الآخرين فانزلق محتكاً بحافة الحوض محدثاً زوبعة صغيرة فخجلت بعض الشيء وتصنعت بغسل الأطباق. في الحقيقة لقد فعلت. كانت سيلفيا آنها في الحمام تستاك كعادتها بعد الطعام. وعندما شرعت في عملية غسل الأطباق التي ساقتني إليها الأقدار رأت فلورا ما أفعله جميلاً كونه عمل مطلوب لكنه ليس بالضرورة واجبي فذهبت مسرعة إلى حيث سيلفيا فحدثتها عما أصنع بالأطباق. فجاءت سيلفيا تعانقني من الخلف بينما هي تردد بحنية وشيء من الفخر «أنت لطيف حبيبي».
توفيقي في العشاء الآخير وكل العشاءات السابقة له لم يكن بوحي الصدفة وحدها، لا، كنت أعرف الكثير من قواعد العشاء الهولندي فأقتفيت آثارها بوعي وبلا وعي.
كل شعب من الشعوب عنده طريقته المختلفة كثيرآ أو قليلآ عن الشعوب الأخرى. كما أن الطبقات والفئات الإجتماعية المختلفة عندها طرقها المختلفة بعض الشي في إطار الثقافة الجماعية الواحدة. لكن هناك قواعد وآداب إجتماعية ومستحبات أو مبغضات شبه مجمع عليها في هولندا.
من أهم القواعد في هذه الحالة أن تكون جاهزاً عند ميقات الطعام. على الإنسان أن يكون في الميعاد المحدد و المناسب. التأخير ولو دقائق معدودة فهو أمر مقلق جدآ كون الناس يهدفون إلى المشاركة في المائدة وهي أهم لحظات الحميمية والود في هولندا على وجه العموم. القاعدة الثانية أن لا تجلس إلى المائدة ما لم يتم النداء إلى ذلك بواسطة من هو قيم على المائدة وليس من المحبذ أن تختار موقعك بنفسك من المائدة حتى يؤشر إليك أو يؤذن لك. القاعدة الثالثة لا تبدأ الأكل قبل الآخرين.
القاعدة الرابعة لا تأخذ من الطعام على طبقك أكثر مما تطيق... عندما يبقى طعام على طبقك دون أن تستطيع إتمامه فقد يعني أن الأكل غير شهي وهو أمر محرج لمن حضر الطعام كما أن ذلك يجي ايضآ من مثل مسيحية قديمة وعتيقة تحض على إحترام الطعام وتقديسه. القاعدة الخامسة لا تدخن التبغ أبدآ بينما بقية الناس مازالوا على المائدة لم ينتهو من طعامهم بعد. القاعدة السادسة لا تعلق ابدآ على طريقة أكل أو شرب الآخرين.
القاعدة السابعة والأخيرة لا تتحدث في السياسة أو البزنس أثناء الأكل فتلك اللحظات للأسرة وللصداقة وللود وغالبآ ما تكون هناك ميكنزمات تلقائية لمناقشة وحل المشاكل الأسرية الطارئة. وربما كانت هناك قاعدة ثامنة وهي أنه في الضد من الشفافية الإجتماعية التي يتعامل بها الهولنديون في اليومي ففي الطعام وحده: لا... وجب إما تصمت أو تتحدث عن حسن الطعام مهما كانت رداءته. كما أن القطيعة «النميمة» أثناء الأكل من العادات الهولندية السيئة مثل عديد الشعوب... إذ ليس مبغوضآ ضمنيآ أن تتحدث عن الناس الآخرين «الغائبين» أثناء العشاء... سيسمعك من معك على المائدة بشهية!.
4-6
بعد العشاء الأخير بساعة ونصف رن جرس الباب فدخلت أربع شابات من فتيات الحي. ثلاثة منهن كنا زملاء سيلفيا في مراحل أولية مختلفة من الدراسة وهن: إيملي، إليسا ولارا والرابعة كانت بنت خالتها: إيفي. جئن لتحية سيلفيا وفق مواعيد مسبقة لم أكن أنا على علم بها وربما نسيت!. جئن لتحية سيلفيا لكنني كنت في دخيلتي واثقاً من أنهن جئن أيضاً لرؤية صديقها الجديد الذي لا بد أنهن سمعن عنه بطريقة أو أخرى وهو أنا طبعاً. وبينما كانت سيلفيا تستقبلهن عند المدخل وتسرف في القبل والأحضان والصيحات المرحبة أسرعت أنا بشكل مباغت إلى الحمام في الطابق العلوي دون أن اشعر احداً بحركتي مضمراً خطة طارئة. فأستكت وتحممت ولبست أجمل ما عندي من الثياب المنزلية وتعطرت بعطري المحبب من «جين باوول» وسرحت شعري بجل يسمى «إمبيزبول» ثم هيأت مشاعري للنزول إلى غرفة الجلوس حيث المهرجان مصطنعاً إبتسامة واثقة من آثارها... وشرعت في النزول ممتطياً أدراج السلم الخشبية المتعرجة محاولاً تقليل حدة ضوضاء وقع أقدامي على الأدراك أتلصص النظر كما مصطنعاً قدراً من المفاجأة لتلك الكائنات الجميلة الموسوسة التي كانت تحيط بسيلفيا من النواحي الأربعة. عندما رأينني أبدو قادماً عليهن على بعد عدة أمتار نهضن كلهن الواحدة تلو والأخرى وعلى وجوههن قدراً لا مناص منه من حب الإستطلاع. ونهضت سيلفيا بدورها بينما ظلت فلوارا قابعة في الكرسي مثل قطة وديعة لا تهتم بالعواصف. وكان مارسيل وهينكا قد انزويا بعد العشاء مباشرة في غرفتهما الخاصة في الناحية الخلفية من الدار.
حييتهن بحذر ورفق فحييني بالمثل وأنا أقول في دخيلتي أن هذه القرية لا بد أنها رتبت من قبل الخالق لتكون مصنعاً للجمال. أنا رجل حتمت أقداره أن يجوب الشرق والغرب والشمال والجنوب، وأن يشتغل ولو حين من الدهر كعارض أزياء، لم ار أبداً نساءاً في الدنيا أجمل من نساء هانقلو. ولم أعشق عشقاً في الدنيا مثل هانلقو. ولم تعشقني قرية في الدنيا مثلما فعلت هانقلو.
إيملي قصتها عجيبة. هي صديقة مارك فان بوميل الذي حاول كل الوقت السابق صداقة سيلفيا لكنه تعثر وفق الأقدار التي جاءت بي إلى حياة سيلفيا. وعندما رأى مارك فان بوميل مرة صورة فوتغرافية لي في بداية حياتي مع سيلفيا أرسل لها «إس إم إس» يقول فيها: «لا أستطيع هزيمة هذا»!. فرأت سيلفيا في الرسالة برغم ما بها من سلام وإستسلام إشارات عنصرية جسدانية وجنسية فردت عليه بجملة واحدة: «أنت سخيف»، لكن كان أمام تلك الجملة الصارمة علامة ضاحكة!. هل كانت إيملي تعلم بالقصة أم لا، لا أدري!.
بعد أن أنتهينا من لحظات التعارف القلقة غمزت سيلفيا لفلورا فنهضت فلوارا في طريق الناحية الخلفية من المطبخ حيث يكون بار المنزل فجاءت بعدة زجاجات من الواين الأحمر من ماركات مختلفة أسبانية ويونانية وفرنسية وجنوب أفريقية تعرضها علينا جميعاً لننتقي منها حسب أذواقنا. في تلك الأثناء كانت سيلفيا تطفي الأنوار الساطعة وتوقد بديلها شموع ملونة كبيرة الحجم وزعتها على عدة أرجاء من غرفة الجلوس ووضعت ثلاثة منها على المائدة من أمامنا ثم صبت لي كأسي بحسب علمها اليقيني وكان من الواين الأسباني الكتلوني. فأنتعشت أنا وأنتعشت الأجواء كلها حتى فاضت بالبهجة ونحن نتسامر، نغني ونرقص، ننسجم مع ذواتنا الحقة ونتنصل عن وقارنا المصطنع حتى أصبح الصبح.
عند الصباح كان رأسي مثقلاً وأشعر ببطني تألمني بعض الشيء فأخبرت سيلفيا بالأمر فعلمت ما بي فذهبت بي ونحن في طريق محطة القطارات في طريقنا إلى آرنهم إلى محل للأسماك وأبتاعت لي قطعتين من سمك الهارنج المدخن فتحسن حالي كثيراً من بعدها. وكانت بصحبتنا فلورا من أجل وداعنا عند محطة قطارات هانقلو. فسألتني فلوارا شيئاً لم أتوقعه منها وهو أنها تفكر في زيارة سياحية إلى السودان!.
5-6
كان لدى فلورا اسئلة كثيرة كونها لأول مرة تفكر في السفر سياحة إلى مكان ما في الشرق.
أخبرتها بما لدي وطمأنتها على أننا شعب يحترم ضيوفه ويقدسهم.
وحاولت الإجابة على كل تساؤلاتها العملية التي كان هدفها العلم ببعض الأمور التي قد تكون غائبة عنها من قبيل هل من الضرورة أن يتحصن المرء ضد الملاريا وما هي اللغة التي يستطيع أن يتخاطب بها مع الناس العاديين الذين قد يصادفهم هناك.
كانت إجاباتي تلقائية كون إسئلتها بدت بسيطة وروتينية.
ما عدا سؤال واحداً، سؤالاً لم يكن سهلا أبدآ على شخص في حالتي «شخص عنده رؤية مختلفة عما يحدث في بلاده»!.
ماذا أتوقع « أنا» أن ترى « هي» في السودان؟. . ذاك هو السؤال.
سؤال مشروع، لكنه عريض جدا ويحتمل ألف إجابة. لكن بعد هذا كله لم تغلبني الحيل. قلت لها لن تري شيئآ غير الشي الذي قد تتوقعين!.
هل تكون إجابتي تلك على سؤال فلورا الصعب واحدة من الألف إجابة التي يحتملها السؤال. لا أعرف.!
لكنني تصورت أو قل تخيلت أن فلورا تتوقع أن تري الفقر « الفقر المادي»، أو أنها توقعت أن أصارحها فأقول لها أنك سترين الفقر يمشي على قدمين وسوء الحال والمآل السياسي والأخلاقي والقانوني بالمقارنة بالرفاء المادي والمعنوي الذي تعيشين فيه . وإن صح خيالي فأن هذه أقرب إجابة من الألف إجابة المحتملة، في تقديري.
لكن بكل تاكيد لا أحد يتكبد مشاق السفر إلى بلاد بعيدة وغريبة لمجرد مشاهدة مأساة، مأساة واقعية أو متوهمة.
الفقر حقيقة ماثلة في السودان وفي معظم دول العالم الثالث، حقيقة لا ينكرها إلا مراوغ.
تشابكت عوامل عديدة « داخلية وخارجية، آنية وتاريخية» لتجعل إقامة الفقر عندنا مديدة، إنه وجه المشهد السياسي في جل بلداننا، مشهد بائس وقبيح. الفقر شيطان لئيم لا هدف له غير رهق الجسد بالجوع والبرد والمرض. نحتاج نحن إلى إرادة باسلة لحربه وشركاء صادقين يحملون معنا سيوف النار ويرددون معنا التعاويذ ويلبسون مثلنا التمائم أوان المعركة.
غير أنه لحسن الحظ ما تزال هناك تسعمائة وتسع وتسعين إحابة أخرى محتملة على السؤال. فذكرت لها المزيد في رسالة إكترونية قصيرة أرسلتها في وقت لاحق من لابتوب سيلفيا... قلت فيها:
تستطيعين يا فلورا أن ترى النيل. وتستطيعين أن تري المزيد.
تستطيعين يا فلورا أن ترى الجهات الثمانية ، فالجهات عندنا ليست أربعة كما عندكم بل «دبل» ثمانية!. سترين الجنوب وترين الشمال، سترين الغرب وترين الشرق، سترين التحت وترين الفوق وسترين الأزل وترين الأبد.
تستطيعيين يا فلورا أن تري الآفاق كلها عارية أمامك، تر ين البحر ، ترين الجبال الشاهقة وترين الأشجار السامقة والكائنات البرية. وترين الصحراء مشهد الخلود. تستطيعين أن تري السماء الصافية مرصعة بالنجوم الزاهية وسترين نور القمر يغسل وجه الأرض في حبور. تستطيعين أن تري التاريخ والحاضر والمستقبل دفقة واحدة، تستطيعين أن تري بيوت من الحجارة، بيوت خالدة، بناها بشر قبل آلاف السنين وكتبوا الشعر على جدرانها وكتبوا اسماءهم، تستطيعين أن تتيقني أن الحياة كانت موجودة من قبل مثل ما هي الآن وستبقى من بعد، وتستطيعين أن تمشى فوق أرض من ذهب جنبا الى جنب مع أناس فقراء وقلوبهم من ذهب.
تستطيعين يا فلورا أن تقرئي فصولا من التاريخ جديدة وتستطيعين أن تعرفي معان للإنسانية جديدة وتستطيعين أن تعرفي أنك كنت من قبلها تائهة عنك، ستتيقنين لأول مرة أنك لم تكني تعرفي ذاتك الحقة.
فقط إخلعي نعليك وادخلي النهر عند ملتقى النيلين عند منتصف النهار ، سيلاعبك الموج لعبته الأزلية موشوشآ بمؤسيقاه في أذنيك وستشارككما الأسماك الصغيرة الملونة تلك الفرحة العجيبة وستضحك في وجهك الشمس مطلة من مرايا الماء. لا تعبئي بكل تلك الأشياء الصغيرة الجميلة، بل ارفعي هامتك عاليآ وانظري أمامك في الآفاق البعيدة، توجهي بناظريك ناحية الصحراء ، ذلك المدى بغير حدود. في البدء لن ترى شيئا غير الرمال الحمراء، حاولي مد بصرك أكثر فأكثر، أنظري في المدى البعيد، حتما سترين شيئا ما مثل الماء وما هو بماء، إنه السراب، لا تعبئي بالسراب، حاولي أكثر، أمشي بناظريك أبعد فأبعد، أبعد ما يكون، تجاوزي خيوط السراب، هل ما دون السراب شي؟، حتما لن ترى شيئا، لأن لا شيء!. سيرتد إليك بصرك متعبآ وحسيرآ في حدود السراب، ستجدين ذاتك في مواجهة السراب، حدقي في السراب، سيقترب منك السراب رويدا رويدا، حتى تصبح قدميك تخطو فوق السراب، سيمشي فوق هامتك السراب، ستكونين أنت السراب. لا شئ غير السراب. أنت سراب يا فلورا ، طبعآ أنت سراب!. ستصابين بدهشة عظيمة، ستغالطين ذاتك لوهلة بأنك لست أنت ذاك الشيء، ولو أنه هو أنت، لكن لا عليك يا فلورا ، فقط خذيه مرايا، اقبليه مرايا، سترين وجهك في مرايا السراب، حينها سيتماهى المرئي في الرائي، عندها ستتيقنين من أنك انت السراب والسراب أنت، وحينئذ سترين ذاتك الحقة، وستعرفين أنك لست بشي غير طفل صغير عار من الثياب وعار من الجسد يستحم في بحيرة الكون الفسيح.
وتستطيعين يا فلورا أن ترى المزيد... وتكونين المزيد!. تلك هي تجربتي الذاتية يا فلورا».
6-6
عدنا أنا وسيلفيا من رحلة هانقلو الأولى إلى دارنا على ضفاف نهر الراين ونحن أكثر ثقة في وهج المشاعر الصاخبة التي تكللنا. الشيء الوحيد الذي كاد أن يكدر الأحاسيس المشرقة هو إتهام سيلفيا لي بأنني أهتممت كثيراً بالحديث مع إيفي بنت خالتها ووفرت لها من الوقت والنظرات ما لا يجب أن يكون. وبالرغم من أنني لا أذكر شيئاً من هذا لكنني على كل حال أعتذرت لسيلفيا بمؤثرات الواين الأحمر فقبلت عذري بعد لأي شديد بشرط أن لا أكررها مرة ثانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.