: « و مجتمع يُجمع شعرائه الفحول علي الموت الباكر مجتمع ينبغي أن يحاسب نفسه :- لماذا ؟ « د. لويس عوض يحلو للصديق الشاعر التيجاني سعيد بين حين و آخر أن يصف صديقه محجوب شريف بأنه وليْ من أولياء الله مع وقف التنفيذ . و في الحقيقة فانّ محجوبا و غيره العديد من الشعراء هم أولياء مكتملو الولاية , و من هؤلاء الشاعر العظيم أمل دنقل الذي تمر في هذا الشهر مايو ذكراه الثلاثين . ففي الحادي و العشرين من مايو عام 83 رحل عن عالمنا شاعر الرفض و التمرّد و الانسانية بعد أن ظلّ يقاوم الموت في المعهد القومي للسرطان . يحدثنا صديقه د / محمد جابر عصفور أنه ذهب لمعاودته قبيل موته في المعهد القومي للسرطان فوجد معه زوجته عبلة دامعة العينين و شقيقه أنس , و ما ان رأي جابر عصفور حتي اكتسي وجهه بجدية صارمة و أشار له كي يقترب و طلب من عبلة و أنس أن يتركا لهما الغرفة , و طلب من عصفور ان يرفع المرتبة و اعطاه رزمة النقود الموجودة قائلا له : « أعرف انك رومانسي , أقمع هذه الرومانسية و استمع اليّ , أنا أعلم أني سأموت اليوم أو غداً كل ما أطلبه أن يصحبني أصدقائي الي مآواي الأخير و أن يركبو معي الطائرة بشرط ألّا يتكلف واحد منهم مليم معك النقود في جيبك أدفعْ منها التذاكر , لا تدع أحدا يدفع أي شئ في مصاريف جنازتي أو سفر أصدقائي , كل ما أريده مصاحبتكم الي القبرالذي اراه الآن و ارجو الّا تخذلني في هذا المطلب الأخير « . و بعد ذلك استمع من كاسيت أتي به الأبنودي الي اغنية « ناعسة « و منها مقطع يقول : يا ناعسة لالا لالا خلصت مني القوالة و السهم الي رماني كاتلني لا محالة يقول عصفور : و ظلّ يسمعها و هو يضيع منّا تدريجيا فيتوقف عن الكلام و يتباطأ تنفسه و يتحشرج صوت النفس و يدخل الي عالم الموت و اخذنا نعرف انها النهاية و ان سهم الموت قاتله لا محالة . و كان قد كتب ضمن « أوراق الغرفة 8 « من قصيدة الجنوبي : فالجنوبي يا سيدي يشتهي ان يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين الحقيقة و الأوجه الغائبة و كان قد كتب قبل ذلك ضمن رثائه لصديقه محمود حسن اسماعيل :- كل الأحبّة يرتحلون فترحل شئيا فشيئا الفة هذا الوطن الي ان يقول : هذا هو العالم المتبقي لنا , انّه الصمت و الذكريات , السواد هو الأهل و البيت ان البياض الوحيد الذي نرتجيه البياض الوحيد الذي نتوحّد فيه بياض الكفن و في « الغرفة 8 « تحوّل الموت الي موضوع للتأمل عند أمل فكتب : في غرفة العمليات كان نقاب الأطباء أبيض لون المعاطف أبيض تاج الحكيمات أبيض أردية الراهبات الملاءات لون الأسّرة , أربطة الشاش و القطن قرص المنوّم , أنبوبة المصل كوب اللبن كل هذا يشيع بقلبي الوهن كل هذا البياض يذكّرني بالكفن و ضمن قصيدة « الجنوبي « يكتب عن الموت : في الميادين يجلس يطلق كالطفل ? نبلة الحصي فيصيب بها من يصيب من السابلة ... يتوجه للبحر في ساعة المدِّ يطرح في الماء صنارة الصيد ثمّ يعود ليكتب أسماء من علِقوا في أحابيله القاتلة و في ذات القصيدة يكتب : أمس فأجاته واقفا بجوار سريره ممسكاً ? بيد ? كوب ماء و يدٌ بحبوب الدواء فتناولتها كان مبتسماً و أنا كنت مستسلماً لمصيري هذه و غيرها من قصائد الغرفة 8 رأي فيها جابر عصفور نوعا من أنسنة الموت و ترويضه و مقاومته في آن . حين كتب أمل هذه القصيدة أدرك أصدقاؤه أنها قصيدته الأخيرة و انه تعب من المقاومة و لم يبق سوي ان يشتهي الموت , يري الحقيقة و الأوجه الغائبة . و حين تسلّم سامي خشبة هذه القصيدة في الاسبوع الثاني من شهر مايو 83 لنشرها في مجلة « ابداع « و بعد قراءته لها تغطي وجهه بملامح الكآبة و الحزن و سلمّها لجابر عصفور الذي لم يستطع سوي ان يقول : « أمل يودّعنا بهذه القصيدة و يكتب رثاءه فيها قبل ان نكتبه و يرينا نهايته كي يعدنا لموقفها الصعب . و في الحقيقة فان احساس الموت قد لازم أمل منذ هزيمة يونيو 67 و لذلك كتب عن حياته قصيدة « سفر ألف دال « اي سفر أمل دنقل و من ضمنها : القطارات ترحل بين قضيبين .. ما كان ما سيكون و السماء رماد , به صنع الموت قهوته ثمّ ذرّاه كي تتنشقه الكائنات فيسري بين الشرايين و الأفئدة كل شئ ? خلال الزجاج ? يفرّ رزاز الغبار علي بقعة الضوء أغنية الريح قنطرة النهر سرب العصافير و الأعمدة كل شئ يفّر فلا الماء تمسكه اليد و الحلم لا يتبقي علي شرفات العيون و القطارات ترحل و الراحلون يصلون و لا يصلون ** راجع : - كتاب « عوالم شعرية معاصرة « ? د/ محمد جابر عصفور . - «الجنوبي « ? عبلة الرويني * عطبرة