فشخصية البطلة واضحة للمتلقي، لا تحاول ان تبرر فعلاً، أو تعترف بحدث خفي شاركت فيه. فكونها محبوبة من زملاء دراستها لدرجة الهيام والعشق الخفي والمعلن فهذا ليس ذنبها، فهى شخصية شبه مستحيلة ظاهراً، رغم أن هذه الاستحالة (طبيبة، وجميلة ومثقفة) هى التي كانت سبباً في مأساتها وعنوستها. وتنازلها في النهاية لتتزوج من هو أقل منها، علماً وثقافة وقامة اجتماعية رفيعة، برغم أن هذا الزواج أيضاً لم يتم من زميلها في المرحلة الابتدائية (الخمسة درسوا في مدرسة واحدة وهى كانت الفتاة الوحيدة بينهم، وهؤلاء الخمسة هم الذين تنبأ لهم الناظر طه بالنبوغ والتفوق، عثمان ود المر، وسامي الرضي، وفيصل ود حاج منصور، ومحمد طه ود الناظر)، والوحيد الذي سعى لزواجها أخيرا هو محيي الدين الراعي الذي صار غنياً بامتهانة مهنة الجزارة، ولم ينجح هذا الزواج لأن الزوج قد اعتقل في يوم زفافه لاتهامه بقتل عثمان ود المر، الذي تجرأ بطلب اخت محيي الدين علانية أمام الناس، ونسى انه من أبناء الرقيق السابقين. ورغم معرفة نوال لدواخلها ولشخصيتها ومقدرتها الاكاديمية والاجتماعية، فهى ليست رواية سايكولوجية بالمعنى المتعارف عليه في مثل هذه الروايات، بحيث أن الشخصية تحمل عقدة كامنة بداخلها، هذه العقدة هى التي تقود الشخصية الى الفعل اللا إرادي الذي لا تريده ولا يرغبه ولا يسمح به المجتمع أو المكان الذي تعيش فيه. فنوال شخصية هرمية، صنعت وبنت مجدها بجدها وذكائها ومثابرتها، وكانت جميلة وليس لها دخل في هذا الجمال، ولم تستغل جمالها هذا في أن تتلاعب بعواطف الآخرين من زملائها، أو من رجال القرية. ورغم معاناتها الداخلية حيث يكون الكمال أحياناً نقصاناً (جميلة ودكتورة ومثقفة، ولم تتزوج بعد) ورغم ذلك لم تبدر منها كلمة سخط، أو ندامة على قدرها ومصيرها، وهى رغم هذه الهرمية فقد كانت تعطي وتساهم في مشاكل القرية وهمومها. ولم تكن تنتظر المن والسلوى ولا الجزاء الأوفى. كل هذا يمكن ان يفتح على المتلقي نوع من القراءة السايكولوجية للرواية، (علم النفس الاجتماعي) فلم لا تكون نوال ضحية لحنينها الى الماضي بأهله وحميميمته، وتطلعها للمستقبل الذي اصبح عندها الربيع الذي قد لا يأتي ابداً وليس نادراً. وكما يقول الروائي يعقوب بدر في عتبة الاستهلال الاولى للرواية (ما بين حنيننا للماضي، وتطلعنا للمستقبل، تتسرب لحظاتنا الحاضرة، دون أن نذوق طعمها، حتى التغير الذي تحدثه في حياتنا فهو محض صدفة وارتجال..) ويبقى السؤال ماذا يريد الكاتب أن يقول، هل اراد ان يقول بأن الانسان لا يستطيع ان يتحكم في قدره، وأن الدنيا لا تعطيك كل شيء؟ وحتى سحر تلميذة الدكتورة نوال المجيدة قد قرأت شخصية معلمتها جيداً، قرأت بها المستقبل بالحاضر، فهى لم تكن استاذتها هي مثالها العملي، ولا أمنيتها المستبقلية، (لا اريد ان اصبح مثل دكتورة نوال، لا انكر انه لولاها لبقينا كما نحن عليه منذ سنوات كثيرة، لكن قل لي ماذا جنت لنفسها، ها هى بقيت وحيدة في سرايا طويلة عريضة، بعد أن تزوج شقيقاها وتركا القرية، يسكنان بيتاً في الخرطوم، فعلت لهم كل شيء، حتى أنها كبرت دون أن تتزوج، بسبب مكانتها في القرية كملكة، فهل يتزوج العامة من الملكة؟) وليست بالضرورة أن تكون الشخصية الهرمية شخصية نموذجية، فحتى القصرالذي بنته في قريتها وهو رمز لهذه الفوقية الاجتماعية، عاشت فيه وحيدة وهى تعود اليه وقت الرجوع والعودة اليومية. ونوال هى النموذج الوحيد الناجح بمقاييس طه الناظر من بين تلاميذه الخمسة الذين تنبأ لهم بالنبوغ مع الدكتور سامي الرضي، بمعنى النجاح الاكاديمي، ولكنه ترك القرية ونسيها. والباقون نجحوا النجاح الدنيوي المادي، والكاتب لعله يقصد هنا بأن الأفكار وحدها لا يمكن أن تصنع نماذج انسانية فاعلة، بل قد يدمر النجاح والنبوع صاحبه، وحتى طه الناظر نفسه العائد التائب من أفكاره الملحدة، والذي تحول مائة وثمانين درجة عنها، لم تخلق منه شخصية نموذجية في القرية محبوبة وفاعلة، ولم تؤسس هذه الأفكار القرية الفاضلة ولا التلميذ الفاضل. ورغم أن الدكتورة نوال شخصية عملية وفاضلة، ولكنها كانت ضحية نفسها قبل غيرها، لأن المجتمع لا يتقبل من المرأة هذا النجاح مع الجمال والتعليم والمهنة الراقية. إن شخصية نوال متاحة لقراءات متعددة في علم النفس والاجتماع، وقد اختار الكاتب يعقوب بدر هذا النموذج بعناية فائقة، فشخصية نوال ممكن أن توجد في المدن والحضر، وهى ستكون ضحية طالما أن العقلية الاجتماعية تجاه هذه الشخصية لم تتغير بعد. وإذا لم تتغير مثل هذه العقليات فإن مجتمعنا ستكون به أكثر بل عشرات أمثال الدكتورة نوال. والكاتب اختار هذه الشخصية بوعي كتابي ومعرفي جيد، فهو يعرف نموها وتطورها ومسارها النفسي والاجتماعي، كأنما هى تمثل الذات الثانية للمؤلف. فالكاتب نفسه يعمل في مهنة الطب، لذلك نجده منحازاً إلى هذه الشخصية، ويحاول أن يبرز جوانبها الإنسانية، تلك الجوانب المفترضة في الطبيب قبل غيره، ويحضرني قول الدكتور الفرنسي جان كريستوف رودف، وهو طبيب يكتب الرواية ويعمل سفيراً لفرنسا في جمهورية السنغال، في لقاء مع مجلة الاوبسيرفاتور الفرنسية العدد الاخير (مايو) «إن مهنة الطب هى التي علمتني الكتابة، فالطبيب البارع ليس هو الذي يعالج المريض، وإنما الذي يفهم نفسيته قبل كل شيء، تجد الخائف مني والخائف من الموت، والمتشبث بالحياة، والمريض الوهمي وغيرهم، إننا نستطيع أن نعالج ونداوي، ولكن أن تكتب ذلك على الورق، فمهنة الكتابة أصعب من الطب، ولكن الطب أيضاً هو الذي عمق الكتابة عندي أيضاً». لقد كانت لغة الرواية سهلة ومبسطة، ولكن توجد بها أخطاء نحوية وتعبيرية فادحة، خاصة الاستخدام الخاطئ للكلمة النكرة في غير موضعها ومكانها، مما يدل على أن الرواية لم تخضع للفحص اللغوي قبل نشرها. لقد كتب الدكتور يعقوب بدر العبيد رواية ممتعة وإنسانية، وكتب نموذجاً نسائياً موجوداً في مجتمعاتنا (المرأة المتعلمة والجميلة والناجحة) وللأسف لم تتطرق له الكتابة النسائية في بلادنا، هؤلاء النساء اللاتي يريد البعض منهن مقابلاً لهذا الجمال والنجاح، والبعض قبل بنصيبه راضياً، والبعض مازال ينتظر في مجتمع لا يحب هذا النجاح ولا هذه الهرمية حتى عند الرجال، فما بالك أن تكون عند المرأة التي يجب أن تكون تحت ظل الرجل دائماً وأبداً.