قدم منتدى السرد والنقد قراءة لرواية الربيع يأتي نادراً للكاتب يعقوب بدر العبيد، وهي الرواية التي فازت بالمرتبة الاولى مناصفة مع رواية عبد العزيز بركة ساكن «الجنقو مسامير الأرض» بجائزة الطيب صالح للرواية السودانية بمركز عبد الكريم ميرغني هذا العام.. تحدث في الأمسية الناقد عز الدين ميرغني والناقد محمد حسن رابح المجمر فبدأ ورقته قائلاً: مدخل القرية الأم وبدايات التكوين: قرية ككل قرى السودان، بلا ملامح محددة او خصائص اثنية، تعاني مخاضات الحداثة البكر من بوابة المدرسة الابتدائية، حيث يسود نمط الإدارة الاهلية المرتبطة بالعشائرية المتوارثة في القرية منذ مئات السنين، بالمفاهيم الثابتة عن الإنسان والإنسان الآخر، للون دلالته وللدين سطوته وللفكر اعداؤه، في المعارك المستمرة بين الخير والشر، القرية في رواية «الربيع يأتي نادراً» تتجسد رمزية عليا لحالة قطرية «بلد بطوله وعرضه» حينما نكون ممسكين «بخيط صراع المفاهيم الكبيرة في الأرض الضيقة»، النبوءات التي حكمت مسار السرد والتعقب التوثيقي لشخوص الرواية أبطال «النبوءة والرؤية» من مدخل ناظر المدرسة «محمد طه» الذي يمثل «بداية» انطلاقة التغيير برؤية «مخططة» وتملك جذوراً حداثية في الأرض. شخوص الرواية والنبوءة يتحقق التغيير على أيديهم: نوال الطبيبة التي تروي على لسانها الرواية، حيث عمل الراوي غيريا بتبني صوت الانثى، مما جعل من الصعب تكييف النص خارج «الأطر الموضوعية للسيرة الذاتية» لو نظرنا اليها بطريقة الدكتور مصطفى الصاوي للخصائص النسوية التي تقاطعت في الحكي في أحيانٍ كثيرة مع السياق المنطقي لسير الاحداث وكيفية توصيفها. شخصية أستاذ طه الناظر من الشخصيات القوية والمعبرة عن «موضوع التغيير من خلال المعرفة» بخصائصها المرنة القابلة للتفكيك في اي اتجاه تنويري، إلا أنها تمثل الخطاب الوحيد الذي ظهر ونجا من التغييب كما حدث لبقية الخطابات الاخرى التي ترك غيابها فراغات عريضة داخل السرد في الطريق الى «ذروة الحدث». الدكتور سامي الرضي زميل الدكتورة نوال والذي يبدأ به النص، وكذلك ينتهي. وهو الشخصية الوحيدة التي صاحبت الراوي الأنثى حتى نهاية النص بحيادية اللون الأبيض الذي يرتديه الأطباء. أما الأربعة أشخاص الذين سيشكلون مع الراوي اضلاع «نبوءة الناظر بتفوقهم لاحقاً واحداثهم للتغيير في القرية» هم: عثمان جار النبي المر، فيصل منصور، محمد ابن الناظر، ومحيي الدين ادريس. جوهر الصراع الاجتماعي الذي اشتغلت عليه الرواية: التغيير الاجتماعي يتم من خلال المعرفة، الأمر الذي جعل من الصراع الاجتماعي التقليدي في مجتمع القرية المدينة برمزيتها العريضة صراعاً على مفاهيم التغيير نفسها، وكشف بعمق عن الطبيعة الدموية التي دخلت بها القرية نحوها حتى تحقق التماسك الاجتماعي وتكاملت زوايا البناء الاجتماعي الوظيفي، وفي الوقت نفسه كيف سقطت اول عناصر التغيير الاجتماعي في التقليد وارتبطت بمورثاتها ومشكلاتها المزمنة في صميم الذات الفردية، وارتدت القرية نحو التخلف. وهذا امصطلح استخدمه الراوي في توصيفه للعوالم الاولى التي كانت عليها الحياة في القرية، وهذا الارتداد هو: المفهوم الاجتماعي الاكثر ابداعاً الذي التقطه الراوي بدون الدخول الى تعميمات ومطلقات فكرية معممة ومضللة. تحليل الخطابات الروائية في رواية «الربيع يأتي نادراً»: أولاً: شخصية الراوي المتكاملة بضمير الانثى: بوضع الراوي للشخصية الانثوية مرتكزا رئيسا للسرد، تورط في اعمال تجزيئية للرؤية الفنية للنص، التي هي وضعية المرأة في مجتمع القرية السودانية المحافظة، وتجزئة الخطاب جاءت في غياب الملامح الفكرية الأصل -من ثنايا الحوارات- التي كانت يمكن أن تدور وخصوصاً ان الفتاة «نوال» وهي خامسة المجموعة التي تنبأ لها ناظر المدرسة المختلطة بالقرية بالتفوق واحداث التغيير، فما هي ملامح هذا التفوق الذي لمحه الناظر في الفتاة، وما هو شكل علاقاتها بالمجتمع من حولها، او بالاحرى: كيف خرجت من عالمها المحكوم قدرياً بأن تكون زوجة واماً ثم امرأة عاملة، بكل هذا الاقتدار ضعف الخطاب الانثوي لدى «نوال» في تكييفها للدافعية والبواعث النفسية لديها للانطلاق في عالم اكاديمي جاف وصعب، حتى الوصول الى نهاياته في الدراسات العليا، فأين كانت ملامح التنوير الذي كان يقدمه الناظر في الأفعال الظاهرة، وأين تجلت رواسبه على مستوى الوعي، بنموذج: «نسكن البندر.. سامع؟ الموية بالأنابيب والنور بالكهرباء والسفر سكة حديد.. فاهم؟ الله يلعن ود حامد.. سجم ورماد، فيها المرض والموت ووجع الرأس. أولادنا كلهم يطلعوا أفندية، فاهم؟ زراعة أبداً، وحياة محجوب أخوي زراعة ما تزرعها أبداً» ص66 رواية مريود- الطيب صالح». - الصمت والفردية والعزلة التي عاشت فيها نوال بحسب الإشارات التي جاءت بالنص «تسكن بالقصر الكبير وحدها بعد أن سكن شقيقاها بالمدينة»، فلم يأت في سياق النص وجود أية خطابات اضافية كانت ضرورية من خلال النموذج الذي ذكرناه في «كيفية تكوين مريم في رواية مريود للطيب صالح»، وهي تبرر فعلها الثوري - في ان تقرأ كولد- بمدرسة الاولاد، في الكسر المتعمد للعرف والتقاليد، وبالتالي المفارقة، والفعل الاجتماعي غير المشروع في قراءة مريم، يقابله وجود حالة ثورية لها وضعيتها التنويرية في قرية «الدكتور نوال» إلا أنها لم تظهر ذلك الجانب الثوري على مدار الحقب ما بين طفولتها وحتى بلوغها سن الاربعين، ونقص الخطاب الروائي حينما استبعد مثل التاريخ الرسمي «شخوص مجتمع القرية البسطاء» ومدى تفاعلهم المباشر الحدثي «الطقوس، شعائر الفرح والبكاء والمناسبات، وما وراء القرية الذي ذكر باستبعاد تام للدلالة في السرد»، ويعود حسب تقديرنا هذا العجز في تبني خطابات متعددة ومختلفة لطبيعة السرد النسوي الذي تبناه الكاتب في اللحظة التي كان مطلوباً فيها فتحها على مصراعيها كخطابات «تؤسس لخلاف مفاهيمي كبير» يجادل على مستوى «صيرورة الحياة في المكان»، وهو التردد الذي ظهر في خوف الراوي من الخوض في مشكلات البناء السلطوي العشائري في الجزئية الخاصة «بفك عزلة القرية ومشكلة قبول السوق بالقرية أو رفضه وصراعه مع الناظر»، وربطها ببقية القرى والمدن، لتبادر السؤال: هل استطاعت الطبيبة ان تفجر مسألة فك العزلة عن القرية وهي تقوم بكل العمليات حتى الصغيرة والعادية داخل القرية، وحتى في حال مجيء السوق بشكل تلقائي الى القرية بعد ان تم رفضه قبل سنين طويلة من قبل شيخ المنطقة؟! للاجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة لهذه الجزئية المتعلقة بضعف الخطاب في تطوير علاقة الفرد بالقرية وبالقانون والنظام، وبالتالي دخوله الى التنوير والمدنية من اهم عناصره التي تبدأ من النظام: - ما هي المبررات المنطقية التي تجعل من السوق والمدرسة والمستشفى عناصر متكاملة لتحريك وضع اقتصادي، وتشجيع ابناء القرية على الاستقرار، ولا يجعل منها وسيلة اضافية مع نقطة للبوليس في المنطقة لكشف كيفية تعامل الافراد مع القانون؟ وما هو الأثر الذي تركه الناظر -من خلال حواراته ومجادلاته وافعاله مع اهل القرية في هذا الخصوص، هل ينفصل النظام والامتثال للقانون عن الدعوة الى اية حالة تنوير؟ - وللاشارة التي قدمها الراوي بخصوص عدم معرفته للسياسة او اهتمامه بها، اثر كبير في تمرير حادثة مقتل عثمان المر الى واقع تسفيلي أهدر الجوانب الدرامية والحركية في الشخصية، لتتحول لمجرد رمز بيئي مكاني مجرد في شكل جريمة بسيطة لا تخدم النص كثيراً «ص33- رواية الربيع يأتي نادراً» في حين أن جانباً مهماً من حوار غائب بسبب نقص الخطابات في «تحديد طبيعة التنوير الذي عمل على هديه عثمان المر، او رؤيته للواقع الاجتماعي»، وما الذي غيب هذا الخطاب المهم؟ بحيث حدث انفصام تام ما بين المنطق الروائي الداخلي والواقعية الحقيقية التي تستدعيها واقعة موته، وتفريغ الشخصيات والخطابات الفكرية من مضمونها بسلوك طريق قصير نحو حدث افتعالي يضعنا امام السؤال: اذا كان محيي الدين ادريس وعثمان المر شخصيات مشهود لها بالذكاء والقدرة على إحداث التغيير: لماذا كان مصيرهم المحتوم «قاتلاً ومقتول» بسبب اختلافات سطحية بعيدة عن «فكرة الشرف أو الحق» واذا قلنا بأن الجريمة كانت «ردا لشرف» لماذا لم يتقدم اي حوار او خطاب موضوعي يبرر ويفسر شكل الصراع الليلي بين هاتين الشخصيتين، فافتقاد العدالة والموضوعية في الواقع في حالة اعدام او ابادة شخص بسبب حرمانه من الدفاع عن نفسه، يكون كفيلاً بأن يبرر شكل الصراع الاجتماعي حول المرأة في موقفها الفردي الذي كان مرتبا له، ووفقا للسياق المنطقي في قبول «سحر ادريس» للزواج منه، وبالتالي مخالفة الوضعية الاجتماعية السابقة، وهي الميزة الاجتماعية في الشخصية الاشكالية التي قدمها الروائي الطيب صالح في شخصية «آمنة في عرس الزين، وفي شخصية حُسنة بنت محمود في موسم الهجرة الى الشمال»، التواطؤ بين سحر «الصورة الثانية للمرأة المتنورة بعد نوال بحكم الصيرورة العادية للحياة» للأسف لم تقم بالتضحية الكافية لتجعل من نص رواية «الربيع يأتي نادرا» نصا اشكاليا نوعا ما، وانما جاءت به مهادنا متورطا في المسكوت عنه بذاكرة طبيبة محافظة ومواربة ومثيرة للشكوك في صمتها الذي يحيل على دواخل غير مقروءة الا من خلال الاستيهام، وهذا ما اثبته الكاتب في هذا الاقتباس «كانت حادثة غريبة لا يمكن تفسيرها بسهولة، ودار الروتين المعتاد والتفاصيل في مثل هذا الحدث، تم اخطار الشرطة وتجمع الناس، وشائعات وحكايات في السوق، في ساعات الظهيرة، عند احتساء القهوة تحت ظلال أشجار النيم الظليلة والليمون.. الخ- ص52 رواية الربيع يتأتي نادراً».. لتتوالي اسئلة من هذا القبيل بسبب فجائية وغرابة هذه الحادثة التي راح ضحيتها عثمان المر: من الذي نقل الشائعة الى الطبيبة وما هو مضمونها؟ ما هي حلقة الوصل بينها والمجتمع الريفي المتغير، وحكايات السوق، وهمس النساء في جلسات القهوة، فضحت هذه الجزئية «اختباء الراوي- الأنثى- خلف تفسيرات فردية أخلت بأهم شرط من شروط البناء الروائي في ما يتعلق بزاوية الرؤية او موقع الراوي بهذه المقارنة. وذكر الدكتور أحمد الصادق في ورقته: «الطيب صالح آخر سادة المقام السردي، إن الاستهلال بالحوار في رواية «عرس الزين» بإعلان حادثة زواج الزين من خلال بائعة اللبن، أعطى النص قدرة على التمدد والتغلغل في فضاءات متعددة داخل النص الواحد الذي كان محمولاً هو الآخر داخل خطابات متعددة. والتقريرية في توصيف عالم القرية تقيد الراوي بأن يعتمد على مرجعية واحدة في التصريح بما يراه وما يسمعه، في الوقت الذي بدأت فيه هذه الرواية وهي تناقش وتجادل بقوة في اتجاه صراع مفاهيمي، ولأن الرواية ينظر اليها من ناحية «أنها كيف كتبت؟» يكون الراوي يعقوب بدر العبيد قد نجح في بناء نص حكاية جاذبة بلغة مدينية رصينة، الا انها لم ترق لمستوى البناء الروائي الحقيقي الذي يمسح بمرور المفاهيم المتضادة، او القيم الأصيلة والمكتسبة على ضوء الجدال الفكري الحر، أو من خلال الحوار الدرامي، والاشكال الذي يخرج ببطلة النص من عزلتها، حيث كانت تجتر أحزانها صامتة وتغازل نفسها، وتحكي عن نفسها، ولم يدخل عليها خطاب اضافي سوى نص رسالة بعث بها الدكتور راضي». ليكون التناقض السياقي في رواية «الربيع يأتي نادراً» في الجزئية الخاصة بسحر ادريس التي رفضت لنفسها مصير نوال الطبيبة، لأنها تريد ان تحيا حياتها ببساطة زوجة وام، في حين ان المشروع التقدمي قد تمت هزيمته، وهي الشخصية النقيض لها في الجيل الثاني من القرية الذي ووفقا للسياق المنطقي للثورة وعمليات التغيير هو الجيل الذي كان ستتجلى فيه هذه المفاهيم الجديدة لها، وبذلك يكون النص قد أغلق بانغلاق هذه الخطابات وتعثرها في التعبير عن اية جوانب ظاهرية في حقيقة الوجود الفعلي لهؤلاء الناس المتصارعين -حد الموت- بأن كان دور البطلة نوال لا يعدو كون أننا سمعنا صوت «الصفقة باليد الواحدة»، ليكون «بوكيه الورد» هو الاشارة المعبرة عن مدينة باهظة التكاليف، وهو أبرز الادلة على أن نقص الخطابات وادوات السرد الروائي المتناسق اسلوبيا مع واقع المجتمع الريفي هو الاصل. خلاصة الورقة: 1- الالتقاط لموضوعة التنمية والتغير الاجتماعي في الريف السوداني كان موفقا، الا انه كان مطروقا مما جعل من الصعب مرور اي نص بهذه المرجعية بغير أن يتعرض للمقارنة، خاصة انه يدخل بقدميه الى ساحة بحث انثروبيولوجي بأدواته الخاصة، مع التركيز على أن توظيف صوت الأنثى الراوية لا يجري تصنيفه هنا بأنه صوت مستقل ومعزول في هذا السياق، وإنما تعبير عن حالة حراك اجتماعي محدد الأبعاد، لذلك فإن موضوعة التغير الاجتماعي تقوم على بحث تطور المفاهيم ومقارنتها، ولخاصية الحوار الدرامي أثر كبير في مناقشة وفتح هذه الخطابات وتفكيكها بما يترك آثاراً مهمة على صعيد المتلقي. 2- السرعة في الوصول إلى ذروات حدثية في الرواية بعيداً عن واقع الاختمار والتسبيب الواقعي، يوقع النص في التقليدية، ويبعده عن واقع أنه عمل يتبنى من خلال خيال كاتب افكارا تم ترتيبها بطريقة روائية من خلال الشخوص والحبكة والرؤى المتداخلة او المختلفة في النص، لأن يكون صدى لصوت واحد، ولغياب الحوارات المطولة او القصيرة اثره الكبير في تراجع مجتمع القرية، مما جعل الرواية صفوية ومتعالية على مستوى اللغة. 3- إلا أن التجربة والمغامرة في خوض تجربة الرواية عند الكاتب يعقوب بدر العبيد، تظل عملا محمودا يستحق كل تشجيع، لا سيما في ظل توفر الموهبة والخيال الخصب، وبقدر ما كانت رؤيتنا النقدية المتواضعة لهذا النص متشعبة، إلا أننا نقرُّ بأننا وقفنا إزاء عمل وكاتب له من القدرة الابداعية ما يؤهله لأن يستشرف تجارب اكبر واكثر عمقاً، ولا ننسى أن نقول بأننا في بلد يحتاج لأن يكتب كل الناس وباستمرار. والله أعلم إعداد: محمد حسن رابح المجمر