عمر دفع الله أحمد مُحمَّد مًصطفى (مُعلِّم) الموتُ بابٌ كل الناس طارقه والقبر دارٌ كل الناس داخله، يقول تعالى (أينما تكونوا يُدْرِكْكُم الموت ولو كنتم في بُرُوجٍ مشيدة(78)) سورة النساء. والموتُ يأتي في أعمارٍ مُختلفة من حياة الإنسان، فمن الناس من يموت وهو صبي، ومنهم من يموت وهو شاب، ومنهم من يموت وهو كهل، ومنهم من يصل إلى أرذل العمر، مما يُحتِّم على الإنسان الاستعداد له في أي لحظة، قال تعالى (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) – الآيات (26 و27) سورة الرحمن. وكلٌ منا في هذه الحياة قد فقد حبيبا له سواء أمه أم أبيه أم زوجته أم أخته أم أخيه أم أبنه أم ابنته.. إلخ، حيث يأتي ملك الموت لأخذ الروح في أي لحظة. لو تأملنا الحياة الدنيا سنجدها قصيرة ودقات قلب المرء قائلةٌ له إن الحياة دقائق وثواني. والإنسان نجده يجري ويلهث ويجمع المال ويبنى العمارات والفلل ويأمّل في الحياة الدنيا، وفجأة يرحل إلى ربه ويترك كل أملاكه لغيره ليحاسب عليها من أين أكتسبها وفيما صرفها! وعلى ذلك فإنَّ البقاء والخلود فقط لله عز وجل، وسيطالنا الموت مهما طال الزمان، ولنا في قول إمامنا الشافعي في بعض أبيات شعره الخالدة التالية دليل: تزوَّد بالتقوى فإنك لا تدري إذا جَنَّ عليك الليلُ هل تعيشنَّ إلى الفجرِ وكم من فتىً أصبح وأمسى ضاحكاً وقد نُسِجَتْ أكفانه وهو لا يدري وكم من صغارٍ يُرْتَجَى طول عمرهم وقد أُدْخِلَتْ أجسادهم ظلمة القبر وكم من عروسٍ زيَّنوها لزوجها وقد قُبِضَتْ أرواحهم ليلة الفجر فمن عاش ألف أو ألفين فلابد من يوم يسيرُ إلى القبر في بلدنا، ولوقتٍ قريب وبعد دفن الميت، كان الناس يأتون لبيت العزاء ويجلسون أرضاً تعبيراً عن حزنهم على الميت، وكانت جميع مُستلزمات الفراش من الأكل والشرب تأتي من الجيران، حيث يأتون بالفطور والغداء والعشاء.. إلخ، تمشياً مع حديث رسول الله عليه أفضل الصلوات وأتمَّ التسليم (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنهم مشغولون بمصيبتهم). أما الآن، فقد أصبح بيت العزاء مكاناً للتفاخر وال(فَخْفَخَة)، حيث نجد النساء في قمة زينتهن ممثلة بأفخر أنواع الزينة من الحُلي ورسم للحناء وارتداء آخر صيحات الثياب والعطور الصارخة، وأضحت بيوت العزاء كأماكن الترفيه من النُزُل والاستراحات أو الرحلات حيث تسود النميمة والقطيعة وغيرها، ودونكم ما أصبح مُتعارفاً عليه في ال(وسط) ال(نسائي) ب(حِنَّة الفاتحة)!! ويعقب انصرافهن من بيت العزاء، ملاحظاتهن، أو فلنقل تعليقاتهن بشأن أهل الميت وأيُّهم كان أكثر تأثُّراً وماذا يلبسون أو يأكلون ويشربون ومُستوى أثاث منزلهم وما يفترشوه وغيرها من التعليقات السخيفة والتافهة وكأنهم انصرفوا من مناسبة سعيدة أو حفل تخريج! ومما يُثيرُ الحيرة والدهشة، بعض المظاهر المُصاحبة أو العادات المرتبطة بتقديم العزاء لأهل الميت، حيث لا تزال بعض العادات القديمة (البعيدة عن الشرع) والمُطعَّمة ببعض التقليعات الجديدة هي المُسيطرة على الأمر ولا مكان للشرع في هذا الجانب إلا في إطارٍ ضيقٍ جداً ومحدود من قبل بعض ممن رحمهن ربي. فالعزاء عند نسائنا يكون بوضع اليد على رأس من يريدون عزاؤه وإظهار صوت بنبرات البكاء دون نزول دمعة واحدة أو أي تأثير يدل على الحزن والأسى! ولقد سمعنا بمسح رأس اليتيم بكل شعرة تكسب حسنة، ولكننا لم نسمع بوضع اليد على رأس ذوي الميت وأهله، بينما أخذت الفتيات (غير المتزوجات) منحىً جديداً لم يكن مألوفاً في السابق (سواء من باب الشرع أو العادات المتخلفة)، حيث بات مألوفاً أن نرى الفتيات بمكياج خفيف يأخذ ألواناً غامضة نسبياً، مع حرصهنَّ على التكدُّس في أماكن الخدمات في ساعات الوجبات – حصراً – كنوع من ال(شو) أو للفت أنظار الرجال أو كما يقلن أمهاتهن (شوفي سوقك!). وبالنسبة لأبناء آدم الرجال فحدِّث ولا حرج! حيث التسابق في إظهار القوة والمقدرة المالية عبر الحرص على العِمَمْ (جمع عُمامة) الكبيرة والجلابيب الفاخرة داخل سرادق (صيوان) العزاء ال(مَكَنْدَشْ) بالمكيفات الكبيرة وال(مفروش) بالسجاد والكراسي الفخمة! المدعوم بمجموعة من مُقدِّمي الخدمات للمُعزيين وأمهر الطباخين لتجهيز أفخم أنواع الطعام من دجاجٍ وضَلِعْ وزيتون وجُبن بأنواعه (الأبيض والمُضفَّر) وال(شطة) بال(دكوة) لزوم (فتح الشهية وكدا). أما الشاي القهوة وماء الصحة، فتأتي مع السيرفس ويسألك بسُكَّر أم من غير سكر (مَخيَّر الله!!). وفي الغالب يدور الحديث عن الكورة وأحياناً عن السياسة وقليلاً عن المعيشة ومُستواها المُتدنِّي وصعوبات الحياة، وبعضهم يتفاخر بصوتٍ شبه مسموع بإكمال صفقاتهم التجارية مع تبادُل القفشات والنكات! وأصبح من العسير على المرء التمييز بين سرادق (صيوان) العزاء مع العُرْس! وبات خوف المساكين ال(مُعدمين) أكثر من فقدان الأعزاء والأحباء لما يترتب على الحدث من أعباء مالية لا قبل له بها ولكي لا تنطبق عليه المقولة المأثورة (ميتة وخراب ديار)! ولخوف أهل الميت من التكلفة يوصون أحد أقربائهم بأن يخاطب الحضور بأن مراسم العزاء تنتهي بعد الدفن مباشرة! وعند حضور ذوي الأموال للعزاء، يقف جميع من بداخل سرادق (صيوان) العزاء لتحيته سواء كانت علاقتهم بالميت من الدرجة الأولى أو لا علاقة لهم به (لُبَطْ يعني)، بينما يجد الفقير التجاهُل والازدراء والاستخفاف حتَّى من أقرب أقربين الميت، فمنهم من يشغل نفسه بالجريدة ومنهم من يحتسى القهوة ومنهم من يستمتع بشرب الشاي ويتركونه يرفع الفاتحة لنفسه، باعتبار أن فاتحته لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر، وفي المُحصِّلة، المرحوم راح شمار في مرقة. لقد علَّمنا الغراب في كتاب الله العزيز كيف ندفن الميّت، فحين قتل هابيل أخوه قابيل أرسل الله غراباً يبحت في الأرض ليُعلِّمه كيف يدفن جثة أخيه، حيث يقول المولى جلَّ وعلا (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)) سورة المائدة. إنَّ التعزية سُنَّة لتخفيف الحزن عن أهل الميت والدعاء له بالرحمة (رحم الله ميتّكم وصبّركم على مصيبتكم)، ولقد أوصانا النبي عليه الصلاة والسلام بحمل الميّت وإتباع الجنازة والصلاة عليها والمُشاركة في دفنها، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (من اتبع جنازة مُسلم إيماناً واحتساباً وكان معها حتى يُصلَّى عليها، ويُفْرَغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلَّى عليها ثم رجع قبل أن تُدفَن فإنه يرجع بقيراط) أخرجه البخاري. علينا الاقتداء النبي عليه الصلاة والسلام والرجوع لمحبته وإتباعه في كل التصرفات والأعمال، اللهم أجعلنا من الذين قلت فيهم (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)) – ا سورة البقرة، والله المستعان.