قال "إيواموتو" مدير التسويق في أحد معاقل اليابان الصناعية ردّاً على سؤال من ضيف شرق أوسطي مشاكس إنه يستطيع التمييز بين اليابانيين والصينيين بنسبة تفوق الخمسين وربما السبعين بالمائة، ثم أردف أن الأكثر شبهاً باليابانيين هم الكوريون، وأن محلّ التفرقة عنده بين الشعوب الثلاثة ( التي هي مؤكداً عرق واحد في تقدير علماء الأجناس) هي العيون! ومعروف أن العيون هي علامة تلك الشعوب المسجلة التي تجعل كل فرد منها يبدو كالآخر في نظر العالم. بقليل من المخالطة تستطيع التفرقة بين "إيواموتو" و "أكيهيكو" و "هيرويوكي" إن من شكل العيون أو غيرها، ما يؤكد أن الاندهاش حالة نصرّ عليها لإرجاء المعرفة استسلاماً للذة السكون إلى بدهيّة لا نحب أن نخضعها للشك والتحليل. مع بلد كاليابان كونه أحد أطراف العالم القصية، متجاوزاً الصين المثل الأشهر للبعد في التراث العربي، لا بدّ أن تسبقك كثير من الأحلام والخيالات فيما يخص الأرض والبشر. أما الأرض فما ستمشي عليه لن يختلف كثيراً عمّا وطأته من قبل في شرق الدنيا أو غربها.. وكذلك السماء، إلا عندما تتذكر أنك في أحضان محيط ليس بالهادئ يموج ما حوله بالزلازل والبراكين. وأما البشر فهم المعجزة التي ابتدعت نجاحاً مثيراً بعد هزيمة قسرية وما فتئت تستكمل قصة تفوّق لا يعرف النهاية، فإذا كانت لكل بلد ومدينة معالمها البارزة فإن اليابان تستقر في أذهان العالم بلا معلم فريد يستحوذ على خواطر السياح، لا قصر الإمبراطور ولا جبل فوجي ولا حتى برج سكاي تري الأكثر حداثة، فمقصد زوّار اليابان على الأرجح هو الشعب الياباني نفسه، حتى إن ألسنة السيّاح تكاد تلهج بالدعاء لذلك الشعب "سلمت يداك" في أعقاب كل تحفة يابانية تطالعها من كل شكل وحجم، وكأن الزائر لليابان يتعقب في البلد روعة الصنعة حيثما استقرت عيناه لينتهي مع كل لحظة تأمُّل إلى حيث يريد من تأكيد افتتانه بالشعب المعجزة. وإذا كان الشعب الياباني جديراً بذلك الوصف فإن مما يعمّقه في نفوس العالم الغموضُ الذي لا يحب اليابانيون أن يزيحوه عن صورتهم أمام الآخرين. وربما ذهب كثيرون إلى أن الياباني فرد عاديّ الإمكانيات تظهر عبقرّيته في الجماعة عندهم، والأرجح أن الياباني لا يحب أن يمنح الآخرين شعوراً بالتفوق، ليس من باب التواضع بالضرورة وإنما على سبيل التحفُّظ في الأغلب، وهذا ما يدفع آخرين إلى اتهام اليابانيين في الخارج بالتغابي في التواصل مع غيرهم خلال لقاءات العمل، فليس معقولاً – عند أولئك- أن من يستطيع أن ينجز أرفع تقنية عالمية حسب ما تشتهيه مواصفات العالم من كل حدب وصوب لا يستطيع أن يفهم تعليقات الآخرين على تلك المنجزات خاصة عندما يتعلّق الأمر بالقدح ( الذي هو نادر الحدوث مع الصناعة اليابانية أو متكلَّف من مستهلِّك شديد التطلُّب). ولكن العبقرية العلمية والعملية شيء وفنون التواصل ( خاصة اجتماعياً ) مع الناس شيء آخر، وهو ما تتفاوت فيه شعوب أوربا نفسها على سبيل المثال، وذلك لا ينفي خصوصية التحفظ الياباني بحال. إذا كان العمل عبودية لا مفرّ منها على مدى تاريخ البشر فإنه في اليابان العبودية التي اختارها طواعية اليابانيون، أما الأدب الجم فهو عبوديتهم المشتهاة التي تتوِّج إخلاصهم في العمل حتى تبدو جزءاً أصيلاً منه. وفي مقام العمل تحديداً، بل والحياة عامة، يبدو اليابانيون الأحق عندي بوصف "الآلة" قبل الألمان، فالآلة لا تعمل بجدّ وكفاءة فحسب وإنما بانتظام، وانتظام اليابانيين لا يُضاهى حتى إن تطبيقاتهم التقنية تنزل إلى الشارع وتمضي قُدماً في الحياة بما يفوق الغرب ابتداعاً وحداثةً والشعبُ حيالها على قلب رجل واحد التزاماً وانسجاماً واندماجاً. وإذا لم تكن اليابان من مؤسسي مفهوم العولمة نظرياً فقد كانت له بالمرصاد على صعيد الإفادة والترويج حتى باتت من اللاعبين الأساسيين الذين تزعج مهاراتهم الولاياتالمتحدة فتضطر للالتفاف عليهم بالسبل غير المشروعة، ولكن اليابان بوصفها أستاذاً في اللعب نزولاً على شروط الآخرين تواصل الإفادة القصوى من قوانين العولمة فتكتسح الأسواق العالمية والأمريكية على وجه الخصوص على الرغم من كل دسائس ومكايدات العم غير الرؤوم سام. لا ريب أن ثمة من يتحفظ على الآثار غير المحمودة ثقافياً للعولمة في اليابان، ولكن جملة اليابانيين في سوق العمل وفي الشارع وعلى كل الأصعدة المحركة لعجلة الحياة (باستثناء خاصة المثقفين و المسنِّين ورجال الدين) لا تبدو منزعجة من الانصياع للنمط الغربي، والأمريكي تحديداً، في الثقافة والحياة حتى إذا طال ذلك النمط عيونهم المميزة فبات في حكم الموضة أن تمتد إليها مشارط الجرّاحين للتجميل على النمط الغربي، ولعل "إيواموتو" لن يعود بإمكانه على مدى قريب أن يفرِّق بين كثير من اليابانيين والأمريكيين إذا كان يتيه اليوم بنسبة نجاح تتجاوز الخمسين أو السبعين بالمائة في التفرقة بين الياباني والصيني أو الياباني والكوري على خلفية العيون الدقيقة.