المناظرة من صميم الثقافة الديموقراطية.. وهي ليست مبارزة دونكيشوتية بسيوفٍ من خشب أو معركة بالذخيرة الكلامية الحيّة ينتصر فيها الخطيب المُفوّه وذَرِب اللسان، بل هي ساحة للانتصار للحقيقة والبحث عن الرأي الأصوب والخيار الأفضل دون تعصب، وقوامها هو صدقية المعلومة وعرض الحجة والاحتكام للعقلانية للدفاع عن وجهة النظر. الذي لا يتهيّب المناظرات هو الأكثر انسجاماً مع نفسه وثقةً بها وبمرجعياته المعرفية ومن لا يستنكف الاعتراف بالحقيقة حتى لو جاءت من منافسه، والأكثر نفوراً منها هو المُصاب بأُزعومة احتكار الحقيقة ولذلك فهو يُفضِّل الحوار في سوق النحاس لأن ضجيج مطارقه يطغى على صوت الناي الشجي. الديموقراطية ليست مجرد شعارات مبثوثة في بطون الكتب أو في خطب السياسيين ومواثيقهم وإعلاناتهم، وليست مجرد وصفة يُمكن لمن يحصل عليها أن يستحضرها على الفور، كما لا يمكن استصدارها بقرار، بل هي عملية تفاعل مجتمعي وتطور تراكمي وبناء مستمر، وهي – عبر الممارسة – تمتلك آليات التخلص من العيوب والنواقص واستدراك الأخطاء والسعي الدائم للتجويد. وإذا كانت الأحزاب السياسية هي إحدى ركائز النظام الديموقراطي – وإذا استحضرنا المقولة المنطقية الشائعة "فاقد الشيء لا يعطيه" – فإنه لا يمكن بناء نظام حكم ديموقراطي دون أحزاب ديموقراطية تكون فضاءً حُرَّاً لجميع أعضائها للحوار و الأسئلة والمساءلة والمساهمة الجماعية في صوغ الرؤى وضبط بوصلة الحراك، ولتداول مواقع القيادة. والأحزاب السياسية، إذ تندب نفسها لتنال تفويضاً من الجماهير، فمن حق الجماهير عليها أن تُحاط علماً ببرامجها وتطلع على نشاطاتها وتتعرف على شخصيات قادتها وطرائق تفكيرهم وأن تسألهم وتسائلهم، وأن تطمئن على ديموقراطية هذه الأحزاب عبر المتابعة لما يعتمل في آنيتها "لأنّ كل إناءٍ بما فيه ينضح". في هذا السياق، أسعدني كثيراً أن لجنة الانتخابات الداخلية لحزب المؤتمر السوداني بولاية الخرطوم ستنظم مساء غدٍ الثلاثاء – بصالة نيلتون، شارع المطار – مناظرة مفتوحة بين المرشحين لرئاسة فرعية الحزب بالولاية و هم: بهاء الحاج، حسين سنكروب، سامية حمزة وسليمان الغوث. هذه ليست المرة الأولى التي ينظِّم فيها حزب المؤتمر السوداني، مناظرة مفتوحة، فقد شهد مؤتمر الحزب العام السابق بولاية الخرطوم مناظرة مفتوحة بين المرشحين لموقع رئيس الحزب بالولاية، وكذلك فعلت فرعية الحزب في جنوب دارفور في مؤتمرها العام أواخر 2019، كما نظّم الحزب العديد من المناظرات المفتوحة حول قضايا مختلفة. التحية لأعضاء حزب المؤتمر السوداني بولاية الخرطوم الذين ظلوا خلال الأسابيع الماضية في نشاطٍ محموم عبر فعاليات التنافس الانتخابي، سواء التي نظمتها لجنة الانتخابات أو التي ابتكرتها فِرَق الحملات الانتخابية للمرشحين الأربعة، وكان الأجمل في ذلك طواف المرشحين وظهورهم فرادى أو مجتمعين أمام أعضاء الحزب بالولاية – في دار الحزب الرئيسية أو دوره الفرعية في المحليات – للترويج لبرامجهم ونقاشها معهم بغرض حشد التأييد لها. أمنياتنا لأعضاء المؤتمر السوداني بولاية الخرطوم بنجاح مؤتمرهم العام، ولمرشحي الرئاسة بالتوفيق في المناظرة المنتظرة. وأيّاً كان الفائز بموقع الرئاسة، من بين المرشحين الأربعة، فهم جميعاً منتصرون للممارسة الديموقراطية وإضافة المزيد من الحيوية في جسد الحزب.