كان إلى جانبي الصديق العزيز باشمهندس عبدالرحيم أبوبكر ونحن نضرب أكباد المسافات سعيًا للسليك. والسليك هو الأستاذ فائز السليك الذي أودع واحدة من بنات أفكاره منضدة البحث والتشريح والنقد البليغ عند كبار الكتاب والنقاد في قاهرة المعز، وعندما تواصلت معه السليك مجيبًا لدعوة لا يكون أمامك غير الإجابة لأسباب عديدة تتمدد أمامك ليس آخرها لطف السليك وأدبه الجم وأريحيته وهو يقدم الدعوة لزملائه والأصدقاء. الباشمهندس عبدالرحيم والقادم للتو في إجازته السنوية من واشنطن دي سي هو من روج لمقولة (نقاشي فقد نقاشه) إبان فترة نضرة من عمرنا عملنا فيها معًا مهندسين يافعين في المحطة الأرضية للأقمار الصناعية (انتلسات) في أُم حراز . ومختصر الحكاية المفيد أنني وفي واحدة من ورديات النكد الجميل، طلبت من العامل اللطيف والفيلسوف إكس أن يعاونني في إجراء الصيانة الوقائية والتي مقرر عملها بصورة دورية راتبة وفق إجراءات وطرائق دقيقة لا حياد عنها. استشاط إكس غضبًا وقرّر أن وصفه الوظيفي لا يجبره على المعاونة في نظافة الأجهزة! دهشتي من تصرفه غير المتوقع، دفعني بأن أطلب منه الانصراف، لأن الإدارة التي نعمل بها، لا مكان فيها للوصف الوظيفي الذي (قطعه من رأسه). أبلغته بأنني سأوصي بنقله إلى موقع آخر يتوفر فيه وصفه الوظيفي. لم يكترث إكس لقولي. لَمْلَم أغراضه وغادر، يطارده وعدي بنقله. وتصدّيت وحدي للصيانة الوقائية، وأنجزتها في وقتها. إكس، بطبعه الولُوف وصلاته الممتدة، عزّ عليه أن يُفارق عبير المكان والزمان، لذا، لم يجد مناصًا من حل الأزمة التي أوقعه فيها لسانه. وكان كثيرًا ما يفعل حين يعجز عن صيانة حصانه. أقصد لسانه! طفق إكس يبحث عن (حلّال مشبُوك) ينتشله من ورطته. جلس تحت شجرة الميز في انتظار خروج المهندس عبدالرحيم المُنهك من سهر وردية الليلة السابقة، لأن لا أحد سواه يمكنه إنقاذه من كبوة لسانه الفالت. كان عبدالرحيم يضحك ملء قلبه مُستمعًا ومستمتعًا بتحليل الفيلسوف إكس لمشكلته مع الصيانة الوقائية. قال: – "في البداية، النقاش كان رائقًا مع الباشمهندس، وشوية شوية (نقاشي فقد نقاشو)، وفجأة بدون مقدمات، صرفني عن الشغل". عند هذه النقطة، ترك الوسيط عبدالرحيم، كل شيء.. ترك الفيلسوف وهمومه ونظرياته الفلسفية، وتوقّف عند محطة (النقاش الذي فقد النقاش).. ضحك الوسيط طويلًا، وفكّر سريعًا وقدّر، ليتخّذ من أمثولة (نقاشي فقد نقاشُو)، مدخلًا لحل مشكلة إكس مع الصيانة الوقائية. ولم تمض دقائق، حتى عاد الفيلسوف إلى عمله بوصفه الوظيفي الجديد الذي يحتمل إجراء الصيانة الوقائية! تذكرت كل ذلك وباشمهندس عبدالرحيم أبوبكر إلى جواري في طريقنا إلى السليك في القاهرة لنلتقي (بنات أفكار) فائز. وصف الرواية ذاك الذي طفا على ذهني لحظتها رسمه وجود الباشمهندس عبدالرحيم واحتفائه (بالنقاش الذي فقد النقاش) ونحن نمني النفس بنقاش جاد ونقد فني باذخ للرواية. آثرت أن أبحر في الرواية من زوايا أخر من خلال قراءات سريعة لها، أغوص عميقًا أحايين كثيرة وأطفو حينًا ريثما التقط أنفاسي وأعاود الغوص عميقًا عميقًا في فصول الرواية والتي كتبها السليك بنفسٍ واحد وبلا فصول أو فواصل، وعندما يكتب فائز بين مطرقة غرق في لجة موج عميق وسندان لفح موجة برد قارس فإنه يحول ارتعاشات البحر إلى أمواج هادرة تكسي متاهات الأزمنة وبوابات المدن الخلفية، وأرصفة ما وراء البحار كما يقول هو بالحرف الواحد. وعندما تغوص كقارئ في بحر الرواية مع السليك فإنك لن تحتاج إلى جرعة أكسجين من سطح البحر بل تظل تمارس الغوص لا تلوي على شيء. وعندما يكتب السليك عن تلكم الأمواج الكاسرة فإنه حتمًا يدخل في روعك حالة لا تستطيع وصفها وأنت تتطلع إلى مياه تحولت من حالة اللا لون التي نعرف إلى لون أزرق يمتد إلى ما لا نهاية لم أستطع أن أجد وصفًا لما اعتمل في دواخلي وأنا أقرأ وصف فائز ذاك إلا أنه لم يلبث أن أغناني مؤونة الخيال عندما خطر لي أنه قال إن زرقة البحر تدفعه إلى أن يرقص ارتعاشًا رقصة الموت ثم تعقبها رقصة للحياة. وقلت في نفسي أهي صدفة تلك التي جعلت فائز يقدم رقصة الموت على الحياة في بعثرة عجيبة للسنن التراتبية للكون حيث تسبق الحياة الموت، أم أنه وضعها هكذا تاركًا للقارئ حرية وضعها وفقًا لتراتيبه الذاتية وسؤالي هذا تبدد حين أعملت البصر كرتين في عبارة السليك فوجدتها في جادة التراتبية السليم لا كنت أنا من أخل بقانون القراءة. لا تغادر فصل تحدث فيه فائز عن البحر إلا وأنت تنظر سفن تجوب البحار التي بها شبق لا يتوقف بل تكاد تراه مد ارتعاشاتها كما يقول السليك. متاهة البحر تلك التي رسمها السليك بقلمٍ فنان لا تستطيع مغادرتها إلا وأنت تتأمل الحوار الذي انتهى إلى قناعة راسخة عند السليك أن المراكب لا تغرقها الأمواج وإنما يتم أغراقها بفعل فاعل ولربما تغرقها الصراعات والمصالح. ثم تبلغ ذروة الروعة وأنت تتجول مع السليك في سديم البحر ومياهه ومخاطره وزرقته وهياج عواصفه. تغادر مع السليك إلى حيث أبطال الرواية والبحث عن الشقيق يوسف الذي هو حالة من البحث عن الذات وارجعها النقاد في الورشة إلى أنه بحث عن الهوية. يقرر السليك أن "البرد يحمل الموت مع الوحشة، الخيبات، الانكسارات، يحمل المواجع وفجيعتي تتجذر حين قابلت يوسف، وجهًا لوجه وقلبًا لقلب، وأخًا لأخ". اتدثر حال قراءتي لهذا المقطع بالإنسانيات الباذخة للسليك والتي تطل برأسها بين سطور الرواية إلا أنها هنا تجلت في أبهى معانيها عندما قابل شقيقه (قلبًا لقلب). ناقش السليك (متلازمة استوكهولم) تعاطف الجلاد مع (الضحية) عند واحدة من بطلات روايته اسماها زينب ورفيقها كوة. وأشار إلى أن حكايتيهما لا تعدو أن تكون ضربًا من عبث الأقدار وسوء الحظوظ. زهرة الليلاك كانت مدخل الراوي السليك لصداقة ممتدة مع علوان السوري، وزهرة الليلاك غناها سيد خليفة . ومع أن مريم الأخرى هي الأخرى كانت حاضرة بين الراوي وعلوان والسليك، إلا أن ما جعل الثاني مشدودًا إلى الزهرة هو ارتباط زهرة الليلاك بذكرى والده الراحل لأنه كان يستمع إليها كثيرًا من سيد خليفة، وهكذا أتى بها السليك في وللبحر ارتعاشات (يا زهرة الليلاك / يا أقصوصة الماضي التي أحياك/ لا أنساك ولن أسلاك / بل أنسى ليالي البؤس يوم لقاك) تمددت أمامي زهرة الليلاك والتي تغنى بها سيد خليفة في العام 1962 بلحنها الشجي ،يممت وجهي شطر اليوتيوب وأنا أكتب، استمعت إليها بخلفية صوت كثيف لجمهور الحضور ثم استمعت وشاهدت زهرة الليلاك لذات السيد الخليفة وهو يغنيها في حفل الدوحة في العام 1995 من ذات نافذة اليوتيوب اندحت مع اللحن والنغم ومع ود الحاوي يعزف على (الاكورديون) ومع عازفين قلائل منحوا نخلة زهرة الليلاك طولها (والغابات طبولها والأيام فصولها والبذرة الغمام)، ومددت كلمات زهرة الليلاك من وحي رواية السليك ومن نظم درويش وغناء خليفة صرت أردد (مرت أعوام بل أكثر / منذ نأيت ونأيتي/ ولقد عدت فكنت أصغر / وتوردت واحلويت/ وتلقاني شوقك يطفو عبيرًا يعبق بالعنبر/ ولآلئ طلت من ثغرك كثلوج في ظهر البيدر /اواه تُرى هل ترجع لي لحظات في العمر تُقدر؟) عكست الرواية واقع السودانيين في القاهرة كما هو نقلته بتفاصيل كثيفة حشد فيها السليك كثير من رأي العين وبعض خيال إلا أنه كان فنانًا لا يشق له غبار وهو يعكس ذلك الواقع بقوله: جاءت الخرطوم تلبس جلاليبها سراويلها مراكيبها عمائمها، صديرياتها ثيابها ثم أضاف وتسف تمباكها، هكذا قرر السليك وهو ينظر من على شرفة اعتلاها في قاهرة المعز إلى الطرقات تعج بالسودانيين وتضج بعاداتهم التي حملوها معهم زي وزينة وهندام، عادات وتقاليد، كم و (كيف). لم تكن خاتمة رواية السليك تشبه الخواتيم المعتادة ولا خاتمة الأفلام الإنجليزية التي تترك النهاية لفطنة المشاهد بل كانت محددة المعالم واضحة المآل وترسم النهايات بدقة لا تترك للخيال شيئًا وعندما يكتب فائز السليك جملته الأخير في روايته وللبحر ارتعاشات: "كانت الرياح عاتيةً، والأسماك المفترسة تنتظر .. البحر يلامس السفينة فيرتعش وترتعش". عندها يتوقف الخيال عن العمل ويسدل الستار على رواية لا تستطيع أن تعيش أحداثها إلا إذا قرأتها بنفس واحد ودون توقف من الغلاف إلى الغلاف.