كانت الأضواء تخرج باهتة من نوافذ المنازل البعيدة على امتداد الطريق البري من دوالا إلى ياوندى وكأن نعاسا قد راودها… استسلم الركاب لوعثاء الطريق ومشقته، ورويدا تنخفض أصوات احاديثهم وضحكاتهم ويدب فيها الوهن.. ايماض بروق يتسلل ضوئها للحافلة فينعكس على الوجوه المتعبة داخلها وصوت رعد، فقد تنهمر الأمطار دون استئذان… وحدها "جيرمين" ظلت صامتة منذ ان بدأت الرحلة وقد بدأ عليها قلق وانشغال بينما استمر تحديقها عبر النافذة وكأنها تعلم أنها المرة الأخيرة التي تسلك ذلك الطريق ولن تعود إليه… في اليوم الثالث بعد وصولها لياوندى كانت "جيرمين" وابنيها في صالة المغادرة بالمطار انتظارا لرحلة من نوع آخر إلى باريس بعد أن رتبت أمر هجرة إلى هناك… في روايته "مدينة قاسية Cruel Çìtý" يورد الأديب والروائى الكاميروني مونقو بيتى Mongo Beti قصة الشاب باندا الذي يود تحقيق أمنية والدته بان يقترن بفتاة أحلامه في حياتها وقبل أن ترحل فيسافر لمدينة لبيع حصاد الموسم من ثمار الكاكاو لتوفير الموارد المالية اللازمة لزواجه إلا ان الحظ يعانده فيفشل في مهمته… هل ستلقى "جيرمين" المغادرة إلى فرنسا ذات المصير وهي المتطلعة إلى حياة جديدة مع ابنيها خاصة بعد انفصالها عن زوجها واعتمادها على نفسها لتوفير أسباب الحياة للأسرة.. تقلع الطائرة إلى باريس.. بدأ صوت المحركات لجيرمين كتراتيل وداع لمدينة شرسة، وكانت اهتزازات الطائرة مع الجيوب الهوائية تقطع حبل تفكيرها وتأملها لشكل أيام قادمات لم تستبين ملامحها بعد قبل ان تبتلعها بعد ساعات المدينة الكبيرة ايذانا ببدء حياة جديدة فيها… أغلب الناس الذين يمكنهم تغيير شكل حياتنا لم نقابلهم بعد… جيرمين تلتقي سويسريا بفرنسا يعجب بها ويتزوجها ثم ينتقل بها في نهاية الأمر إلى سويسرا… يجد ابنها "بيريل" الفرصة لاشباع هوايته في كرة القدم ويلفت الأنظار إلى موهبته ويحصد لا ثمار الكاكاو التي خذلت "باندا" في "مدينة قاسية" وانما اعجاب متابعين كثر منذ ان التحق بنادي نوردستيرن ثم نادي بازل الذي صقل مواهبه ولعب معه بعقد احترافي 91 مبارة وسجل 31 هدفا، وبعدها بعامين لعب مع شالكة وبروسيامونشنبلادباخ الالمانيين بين 2019و2022 قبل الالتحاق حاليا بموناكو الفرنسي والذي يقدم معه مستويات جيدة.. ظل بيريل امبولو ومنذ حصوله على الجنسية السويسرية عام 2014 نجما لامعا لمنتخبها الذي أدى معه 59 مباراة دولية بمافى ذلك كاس امم أوروبا ومونديال روسيا عام 2018… يقول امبولو ان المفاضلة واختيار المنتخب السويسرى او منتخب بلاده الكاميرون للعب معه كانت امرا صعبا وقاسيا، وكان من أفراد الأسرة من يؤيد هذا وذاك أيضا… قال انه عندما تم الاتصال به للعب مع منتخب الكاميرون استغرق الأمر معه ستة أشهر قبل ان يقرر اللعب مع منتخب سويسرا، ولابد أن ذلك قد أغضب الكثيرين… على أن الأمر المرعب حقا كان وجود الكاميرونوسويسرا معا في المجموعة السابعة لمونديال قطر مع كل من البرازيل وصربيا، بل احرازه هدف الفوز الوحيد لسويسرا في مرمى الكاميرون مستفيدا من تمريرة شاكيرى العرضية ليودعها شباك الحارس اونانا… لكنه رفض الاحتفال بالهدف وشاهده الملايين حول العالم وفي استاد الجنوب بالوكرة حزينا رغم انه قال قبل المباراة ان كرة القدم هي رياضة المشاعر، وأنه إذا احتفل فلن يكون ذلك ضد بلاده الأم بل لأنه يريد الفوز… وكان قد صرح أيضا بان حب بلاده يجري في دمه وان أهله يعيشون هناك وانه قد درج كثيرا على السفر لياوندى ودوالا ويرغب في رد الجميل لبني وطنه من خلال منظمة أنشأها للأعمال الخيرية والاجتماعية… أوردت وكالات الأنباء صورا لحشد غاضب من الناس قالت انهم حاولوا اقتحام منزل بيريل امبولو في ياوندى احتجاجا ورفضا لاحرازه هدف الفوز ضد منتخب بلاده.. واضح ان هذا الجدل سوف يستمر بين قادح ومادح فبمثلما عولمت كرة القدم تنقلات اللاعبين عولمت أيضا بين المشاعر إذ يلعب أكثر من مائة من لاعبي كاس العالم بقطر لاندية وبلدان غير التي ولدوا فيها.. فشاكيري الذي هيأ الهدف لامبولو هربت أسرته من الصراعات في اقليم كوسوفو، وقدوس نجم منتخب إيران كان مسقط رأسه السويد، وبالسنغال العديد من حملة الجنسية الفرنسية كالحارس ادوارمندى والمدافع عبدو كامارا وحارس الإكوادور أرجنتيني بينما يوجد ألماني في تشكيلة ويلز وامريكي مع اليابان وغيرهم وغيرهم.. ويقول هؤلاء ان الجنسية الجديدة هي تحقيق التميز والنجومية وان ذلك يستوجب الاخلاص لألوان المنتخبات التي يلعبون بها.. أما الجانب الآخر فيقول بداهة ان لا شئ يعدل الوطن.. وفي الوقت الذي يحيل الروائي الكاميروني Mongo Beti للارث الاستعماري والثقافة الرأسمالية أسباب خيبات الأفارقة فان الأديب النيجيري شنوا اشيبى ينصح بعدم إضفاء الرومانسية romantisicing على أوضاع ماقبل مرحلة استعمار افريقيا… بين انتحاب الاكوادوريين.. ودموع سواريز.. واغماءات الكوريين.. وبكاء نيمار وما سكب على الملاعب الخضراء من دماء ودموع كانت النسخة القطرية للمنافسة العالمية للاعبين والمتفرجين على السواء ساحة أخرى وموسما لفيضان المشاعر القومية ولحب الأوطان…