.. الشاب الذي يضع سماعة الموبايل في أذنيه ويستمع بانتباه صفع جبهته بيده فجأة وتحوقل وتشهد، وقام من مقعده ومشى، وجاء، أخذ يرفع في قدميه كمن أوقدت تحتهما نار... كنا في استقبال مستشفى شهير، ظننت أن خبراً فاجعاً لا يقل عن خبر الموت قد صب في أذن الشاب من خلال سماعتي الهاتف، ولكن الرجل بدأ يصيح فى هستيريا (هيثم سجل؟ هيثم سجل؟) فسأله بعض القريبين سجل وين؟ فأجابهم بذات حالة الذعر سجل للمريخ، ثم جلس على الأرض.. تحول استقبال المشفى لحلقة نقاش كروي ساخن، كنت أعرف منذ الظهيرة.. وكنت أفكر قبل يومين أن أكتب مقالة فى هذا الشأن بعنوان (لهذه الأسباب سجلوا هيثم يامريخاب) وهاهي فرصة لأعبر عن نظرتي الإيجابية لما حدث من وجهة نظري الشخصية طبعاً. لتراكمات سياسية واجتماعية وسكانية وثقافية تضعضعت روح الولاءات المختلفة... المواطن السوداني أصبح يشعر بحالة من الاغتراب النفسي... لا كيانه القبلي ظل موجوداً ومعبراً عنه، ولا دولته القومية نضجت واكتملت، ولا وجود حقيقي لمؤسسات مجتمع مدني تتسع لتعبر عن الناس بالشكل المشبع والكافي والمنتج... حتى مجتمعات المدينة والقرية وغيرها من التجمعات السكانية لم تعد تشهد حالة من الثبات الوقتي الكافي بسبب عوامل النزوح والهجرة والانتقال الدائم والمستمر، وفي ظل هذه الظروف الاهتزازية الضخمة لجأ الكثيرون للكيانات الرياضية يشبعون من خلالها الكثير من حالات الفراغ والاغتراب النفسي والوجداني... أصبح هذا الانتماء يعوض للكثيرين حالة التعري الوجداني والاغتراب الداخلي... أصبح الهلال والمريخ.. أكبر بكثير من مجرد لحظات انتشاء بأداء كروي مميز وبحالات انتصار داخلية أو خارجية.. بل أصبح (زائدة نفسية ووجدانية تتمدد داخل نفوس الكثيرين) وكما تعبر الكثير من الأقلام الرياضية أصبح هذان الفريقان وتحولا (لكيانات) وأصبحت تجد تعابير أمة الهلال وأمة المريخ على لسان كل شخص، تحول التشجيع لانتماء وارتباط ضخم قد يقود صاحبه لصدام الآخرين ومحاربتهم بل وقد يدفع البعض للانتحار وزهق الروح... وتتأسس على هذا الكثير من الخصومات والمعارك والمواقف... نعم هذه الظواهر موجودة في مجتمعات رياضية أخرى لكنها محصورة في مستوى فئوي محدد... ثم نفس هذه المجتمعات أصبحت تتقبل انتقال لاعب من فريقها إلى آخر بشكل عادي وهادئ وتستقبل في ذات الحين لاعباً كانت تشاكسه وتهتف ضده من مدرجات التشجيع وهي مستندة على مقعدها في الاستاد وتشرب (المثلجات)، ثم كل هذا مربوط بمستوى النشاط الكروي المتطور هناك. انتقال هيثم للمريخ سيدلق ماءً بارداً في عز أيام الشتاء هذه في أوجه الكثيرين.. وسيكتب بأحرف بارزة الجانب الأهم والواقعي في هذا الصراع... بأن هيثم فقط لاعب كرة قدم... ليس رمزاً ولا يحزنون... وكرة القدم عنده (مهنة) يأكل من ورائها رزقه... وأين ماوجد هذا الرزق (حلالاً) فمرحباً به في أي نادٍ حتى لو كان المريخ.. وعلى المشجعين الذين يحملون هذا الأمر أكثر من هذا عليهم الإفاقة... والنظر للجانب الحقيقي في كل هذا... الهلال والمريخ ليسا أبوين أحد ولا أهله ولا عشيرته.. بل أنا اقترح على الجهات المسؤولة إن وجدت مخرجاً قانونياً لهذا أن تساعد لاعبي المريخ والهلال على التحول بين الناديين كل موسمين أو ثلاثة.. حتى لا يتحول النجوم إلى آلهة عجوى ولا تتحول الأندية إلى مزارات.. وحتى نفرغ بهدوء حالات التعصب والانتماء الأعمى والمخيف... شكراً هيثم وشكراً المريخ وشكراً البرير... أفيقوا أيها الناس.