في شهر ديسمبر الماضي نظم مركز تحليل النزاعات بكلية الاقتصاد بجامعة أم درمان الإسلامية مؤتمراً تحت عنوان: "تأصيل العلوم السياسية" وذلك بالتعاون مع لجنة التربية والتعليم بالمجلس الوطني. ولأسباب صحية لم أشارك في المؤتمر على الرغم من تكليف الزملاء لي بكتابة ورقة في مجال تأصيل علم الاجتماع السياسي. وفي الحقيقة أن هؤلاء الشباب بقيادة الأستاذ/ راشد التجاني قد نجحوا في تنظيم مؤتمر في موضوع مهم يقع على عاتق جامعة إسلامية لا بد لها من أن تدلو بدلوها في هذا الموضوع المثير للجدل حيث ما زال العالم المعاصر يطرح تحديات أمام الإسلام والمسلمين بتشويه صورتهم وإظهار الدين بأنه معاد للعلم والديمقراطية وأن المسلمين ما هم إلا جماعات إرهابية. وتطاولوا بنعت الإسلام والمسلمين بمصطلحات مغلوطة مثل الأصولية الإسلامية والتشدد والتطرف وتعميم تلك الظواهر المحدودة على المسلمين والإسلام وترديد ذلك في الإعلام لترسيخ صورة ذهنية تجعل الاستثناء قاعدة والشاذ أصلاً. لقد أشركوني الزملاء في المؤتمر وأنا في فراش المرض في البيت حيث أرسلوا لي نسخاً إلكترونية لتحكيمها ثم أرسلوا لي معظم الأوراق والبرنامج الذي فيه أسماء المشاركين وعناوين الأوراق مما أعطاني فكرة عامة عن المؤتمر. ونسبة لعدم المشاركة في تفاصيل المؤتمر فإني لستُ بصدد تناول الأوراق لكنني سوف أقدم ملاحظات على هامش المؤتمر تركز في موضوع تأصيل العلوم السياسية. ولا أود أن أظلم المشاركين لكن لاحظتُ أن بعض الأوراق لم تمس أو لم تعالج جوهر الموضوع وتاه بعضُها في تاريخ إسلامي وبعضها لمس بعض قضايا العالم الإسلامي، هذا لا ينفي وجود بعض الأوراق التي عالجت الموضوع بصورة مباشرة. وقبل أن أعلِّق على موضوع تأصيل العلوم السياسية أرى ضرورة التنبيه للأهمية القصوى لهذا الموضوع الذي يتطلب إعادة معالجته بصورة موسعة وأكبر وتشارك فيه جهات أخرى داخلية وخارجية؛ وأن تدعمه الحكومة لأنه يقع في مجال اهتماماتها حيث يشكل موضوع التأصيل أهم أدوات المشروع الحضاري الذي تبنته الحكومة السودانية، وذلك لأن العلوم السياسية شاملة لمجالات أخرى كثيرة (سوف أشير لها لاحقاً) مما يستدعي منهجية متكاملة تشارك فيها مؤسسات أخرى مثل مجمع الفقه الإسلامي وهيئة علماء السودان وبعض مراكز البحوث، كما يمكن أن تدعمه رابطة العالم الإسلامي والإيسسكو، لأن العلوم السياسية شاملة لمجالات كثيرة أرى ضرورة أن يلتقي معنا ويتعاون معنا علماء في مجالات أخرى مثل أصول الدين والفقه والشريعة وأن تشارك شخصيات من داخل وخارج السودان لها إسهامات في مجال السياسة الشرعية والأسلمة والتأصيل مثل الشيخ العلامة يوسف القرضاوي والبروفيسور التجاني عبد القادر حامد وطارق البشري وطارق السويدان ومحمد سليم العوا، ومن داخل السودان علماء مثل البروفيسور عصام أحمد البشير الذي له إسهامات واضحة في مجال المفاهيم والمصطلحات المرتبطة بالتأصيل والأسلمة. نحتاج لتضافر مجالات مختلفة للخروج بمنهج متكامل في تأصيل العلوم السياسية يؤسس لفقه سياسي يخاطب مسائل جدلية شائكة وقضايا معاصرة مثل الدولة والسلطة والإمامة، والديمقراطية والشورى، حقوق الإنسان وأهل الذمة والأقليات والمرأة، والحريات والمواطنة والدولة المدنية، والعلاقة بين الدين والدولة، وفي المجال الاقتصادي والبنوك الإسلامية والفقر (الاقتصاد السياسي) وما شابه ذلك. وقد كانت لي مساهمات متواضعة في هذا المجال مثل كتابي (كتيب) بعنوان "رؤية تأصيلية للإعلام في عصر العولمة" (صدر عن إدارة تأصيل المعرفة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الخرطوم، 2004) و "رؤية تأصيلية للثقافة في عصر العولمة" (مركز دراسات المجتمع، الخرطوم 2005) وكتاب عن المرأة المسلمة في عالم متغير (دار الشريعة، الخرطوم، 1999) بالإضافة إلى أوراق مؤتمرات قدمتُها في الأردن وماليزيا في مجال العلاقة بين الإسلام والغرب، وغيرها.. ليس في ما سبق تقليل من المؤتمر المشار إليه، على العكس، أرى أن هذا المؤتمر أسس لبداية صحيحة وحدد مسؤولية للجامعة الإسلامية هي الأجدر بها، بأن تتصدى لها ابتداءً من هذا المؤتمر الذي يجب أن يتم تطوير فكرته وتوسعته وفق المقترحات التي ذكرتُها آنفاً. فالآن يحتدم الصراع ليس بين الغرب والعالم الإسلامي بل في داخل المجتمعات المسلمة حيث تواجه هذه المجتمعات تحديات في الداخل هي بمثابة ثغرات يأتينا منها الخطر الخارجي وتتمكن من خلالها المهددات الخارجية. ففي الداخل ينشط التيار العلماني بشدة مستغلاً التناقضات الداخلية والصراع بين المذاهب الإسلامية المختلفة والاختلافات القديمة المتجددة بين الشيعة والسنة. وفي داخل السنة نفسها بين التيار الإسلامي المعتدل والتيارات الأخرى المتشددة، والتي يصفها البعض بالسلفية الجهادية والأصولية المتطرفة وجيوب القاعدة وما شابه ذلك. في هذا المناخ السياسي/الآيديولوجي إقليمياً ودولياً تتعاظم أهمية تأصيل العلوم السياسية لتؤسس لمنهج يزاوج بين الأصالة والمعاصرة، ويعمل على تصحيح المفاهيم وضبط المصطلحات محاربة للتشويش الإعلامي للإسلام والمسلمين خاصة بعد تصاعد مخاوف الغرب من انتشار "الإسلام السياسي" بعد الربيع العربي. ولكن من المفارقات أن يكون واقع الفقه السياسي أو الفكر السياسي الإسلامي متقدماً وناشطاً من خلال تيار الجامعة الإسلامية (Pan-Islamism) في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من خلال الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ورشيد رضا، وما قبلهم رواد حركة النهضة العربية مثل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم بينما ينتكس أو يتراجع ويخبو الفكر السياسي الإسلامي في عصر تنشط فيه التيارات العلمانية لمحاصرة الإسلام.! نحتاج في الواقع لقراءة تأصيلية تجديدية تنطلق من ذلك التراث الذي قاد الإحيائية الإسلامية Islamic revivalism. (نواصل، إن شاء الله).