قبل عامٍ مضى، انهدَّ ركنٌ من أركان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بانتقال مثلث الرحمات قداسة البابا شنوده الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، والذي انضمَّ إلى صفوف الآباء القديسين بعد أن عانى من ألم المرض لمدةٍ طويلة. وكان أن تجاوز الفترة الزمنية العصيبة بإيمان وصبر، ذلكم الذي عَلَّم البشرية كلها أن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يخزي (رو 5 : 3-5). البابا شنوده من هو؟ هو ذلك الفتى المصري الذي وُلِدَ في عام 1923م ورحل إلى السماء في السابع عشر من مارس 12 20م. التحق بجامعة فؤاد الأول بكلية الآداب فدرس التاريخ الفرعوني والإسلامي والتاريخ الحديث، وحصل على ليسانس بتقدير (ممتاز). إن تعلقه بالخدمة الروحية، ومنذ صغره، دفعه للالتحاق بالكلية الإكليريكية قبل تخرجه من كلية الآداب، حيث كان يجمع بين دراسته الجامعية ودراسة علم اللاهوت. وبعد حصوله على الليسانس بثلاث سنوات تخرج في الكلية الإكليريكية وعمل بها معلماً للغة العربية، نسبةً لحبه لها، وإجادته لأصولها وقواعدها من نحوٍ وصرف. أحبَّ الشعر وحفظه ونَظَمَه، فله قصائد عديدة جيدة التركيب والبنى الشعرية، وكانت كلها تصف عمق وجدانه وحبه لحياة الصحاري والنسك؛ أحبها رغم قسوتها. لم يركن لعمله بالتدريس فقط، ورئاسته لمجلة مدارس الأحد التي كان يرأس تحريرها؛ بل تقدم للدراسات العليا في مجال علم الآثار (آركيولوجي). تحققت رغبة البابا الرحل في الإنخراط في حياة الرهبنة، ذلك حين تمت رسامته كاهناً في يوليو 1954م، وقد قال أنه وجد في الرهبنة حياة مليئة بالحرية والنقاء، فعاش حياة الوحدة في مغارة (كهف)، مكرساً فيها كل وقته للتأمل والصلاة. إن حبَّه لحياة الوحدة جعله يبقى في الدير لمدةٍ تتجاوز العشرة سنوات، ولم تكن مغادرته لحياة التقشف إلا بسبب اختياره للعمل سكرتيراً لقداسة البابا كيرلس السادس، وفي ذات الوقت رسم اسقفاً للمعاهد الدينية والتربية الكنسية، ويُعَد أول أسقف للتعليم المسيحي وعميداً للكلية الإكليريكية. وعندما رحل إلى السماء البابا كيرلس في العام 1971م تم انتخاب قداسة البابا شنوده ليعتلي كرسي البابوية خلفاً له. كان البابا شنوده يتسم بالتواضع ومحبة الآخرين من أبناء الكنيسة وغيرهم، كما أنه يفرد حباً وتقديراً خاصاً للمرأة العاملة في خدمة الكنيسة، مضحيةً بوقتها وجهدها لخدمة الرب. لم تنتقص مسئولياته الجسام والمتنوعة من حبه لحياة الرهبنة وسكنى البراري، الشيء الذي جعله يُخَصِّص عدداً من أيام الأسبوع ليمضيها في الدير لكي لا يتضاءل إحساسه بأهمية وعظمة حياة النسك بالنسبة للراهب. وفي فترة حبريته انتعشت الرهبنة في الكنيسة القبطية مما حببها للكثير من الشباب القبطي وشاباته، فازدهرت بين المجتمع ووجدت قبولاً بين الأسر التي لم تكن على قناعة كافية بأهميتها، وكثيراً ما تعمل الأسر على إقناع من يرغب في الانخراط في الرهبنة من أبنائها لتغيير رأيه عن ذلك، ولعل ذلك من خصائص الوالدين الذين يرغبون في أن يكون الأبناء أطباء ومهندسون وصيادلة ومحامون وهكذا. كان ذلك قديماً، أما في وقتنا الحاضر فإن من يرغب في الانخراط في الرهبنة لا بد له أن يحمل درجة جامعية على الأقل، ولعل هذا الشرط انتهجه البابا شنوده، ذلك للارتقاء بمستوى الخدمة الروحية، وذات الشرط بالنسبة للشابات اللائي نذرن النفس لخدمة الرب إلا استثناءً ولبعض الظروف الخاصة. إن اهتمام الراحل العظيم بتأهيل القساوسة والرهبان ساعده كثيراً في التفكير لإنشاء أبارشيات قبطية في كل أنحاء العالم، ونجح في ذلك بفضل وجود الخادم المؤهل علمياً، والذي لا يجد مشقةً في التعامل مع رعيته في بلادٍ لا تتحدث اللغة العربية في معظم الأحوال، حقاً كان الرحل العظيم صاحب رؤيا ونظرة ثاقبة للمستقبل. عرف البابا شنوده بأنه العالم اللاهوتي الفذ، تتسم طريقته في تدريس طلابه بالكلية الإكليريكية، التي بدأها معلماً وتَدَرَّج حتى أصبح عميداً لها؛ تتسم بأسلوبه المتميز بالسهولة واليسر والوضوح، وقد أعانه في ذلك موهبته وحبه للغة العربية والإنجليزية مما أعانه على دقة التعبير وسلاسته حتى يستوعبه الآخرون على اختلاف مستوياتهم وطبقاتهم. فأسلوبه وطريقته في التعليم تعد مدرسةً جديدةً نجحت في تسهيل استيعاب العلوم والمعارف اللاهوتية استيعاباً تستريح له الخواطر ويستقر في الجوانح كما ذكر المقدس يوسف حبيب. إن ميول الرحل العظيم البابا شنوده الأدبية، وحبه لعلم التاريخ الذي تخصص في قديمه وحديثه؛ جعله يُصَنَّف من العلماء والمؤرخين الذين تعمَّقوا في دراسة النواحي التاريخية المتشعبة، لا سيما سِيَر القديسين التي كاد أن يحفظها عن ظهر قلب، كما أن ولهه بدراسة التاريخ سهَّل ويسر له دراسة الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث، مما مكَّنه من تفسير فحواه وشرحه لرعيته في بساطة ويسر، كما أنه كان من العاشقين للغة القبطية التي يجيدها نطقاً وكتابة، ويتبدَّى ذلك في تناوله لطقوس الكنيسة. أما في الجانب الروحي المرتبط بالخدمة عُرِفَ بتميزه، ومنذ صباه الباكر، فنمت تلك الروح بفضل دراساته واطلاعه الدائم؛ فهو عاشق للكتاب من حيث هو، وعلى اختلاف مجالاته، لذلك عُرِفَ بأنه موسوعي المعرفة، لا يجد مشقة في التحدث في أي مجال وبأية لغة، بأسانيد علمية وبمنطق العالم العارف. وكم كان نجمه لامعاً في العديد من الاجتماعات والمؤتمرات التي يشارك فيها، داخلياً وخارجياً، يمتاز بالفكر العميق والأسلوب السهل الممتنع. موضوعية البابا شنوده ومنطقه وأسلوبه كانتا من ادوات الجذب للعديد من الرعايا الذين كانوا يأتون الكنيسة من حين لآخر، حبَّبهم، بطريقته، للمجيء الدائم؛ لا سيما الشباب ممن لا يميلون إلى سماع الكلمة بشكلها التقليدي، جميعهم جذبتهم طريقة البابا ومنهاجه فصاروا يشكِّلون حضوراً دائماً؛ سواءً في القداسات والعظات أو المشاركة في الخدمة عبر الأسر والروابط أو "الكورالات" لكل السنوات العمرية، فضلاً عن حضور اللقاء الأسبوعي الذي تنظّمه الكنيسة للقاء البابا الذي يرحب بأسئلتهم وتساؤلاتهم العامة والخاصة، فيجدون عنده الشروح والنصح والإجابة الشافية والرعاية الأبوية المستدامة، يتم ذلك بصراحته المعهودة وابتسامته المشرقة الحانية، فيجد السائل والحائر في إجابته العزاء والحل، وكان الراحل العظيم يرسم في مخيلته صورةً للمجتمع القبطي الذي يرعاه ويستقرء ذلك من خلال ما يقدم من أسئلة وما يُطرح من مشكلات، وللتو يوجِّه من يعاونونه من القساوسة أو الخدام بالإسراع بحل تلك المشاكل والعمل على رفع المتاعب، سواء كانت اجتماعية أو مادية، وكان من أكبر اهتمامات البابا الراحل مساعدة الفقراء والمحتاجين لإدراكه الواعي بتأثير الحاجة والعَوَز على الناس، والذي يدفع إلى طرقٍ مؤداها الخطيئة والهلاك. كان للبابا حباً وتقديراً خاصاً للطفولة والأطفال، فلهم مكانة كبيرة في قلبه، يداعبهم ويلاطفهم ويحنو عليهم بأسلوبه الحنون الرقيق، ويرى فيهم الملائكة الأرضيين، يكلمهم بعطفه وبخاصة الفقراء منهم، لديه ترمومتر حساس يعلم ويحس بضيقات البعض فيقدم بيمناه ما لم تدريه يسراه، وبطريقةٍ لا تخدش شعور المتلقي وتطعن في كبريائه وإنسانيته، عظيماً كان هو بحق. إن وطنية الراحل العظيم يدركها ويلمسها الجميع بجمهورية مصر العربية، الرسمية والشعبية، فمنذ صباه أراد أن ينخرط في صفوف الخدمة الوطنية وبحماس ودون الإتيان بالأسباب والمبررات التي يتخذها بعض أقرانه بغرض الإعفاء من تلك الخدمة، أدى قداسته خدمته العسكرية في اعتداد شديد باسم الضابط (نظير جيد)، تصدى للعديد من المشكلات التي يواجهها أقباط مصر في شجاعةٍ نادرة؛ حيث كان لا يتوانى في الوقوف وبحزم لحل قضايا رعاياه حتى لو أدى ذلك لمواجهات مع السلطة الحاكمة منتصراً لحقوق الأقباط الأرثوذكس، وكم لاقى في ذلك الكثير من العنت الذي يصل أحياناً حدَّ الإقصاء والحرمان من مزاولة واجباته، إلا أنه لم يضعف أو ينكسر، وكان في كثير من الأحيان يمثل رمانة الميزان بين القرارات السلطوية التي تصطدم بحماس الشباب، فيعمل على تهدئتهم وجبر خواطرهم وبطريقة لا تنتقص من حقوقهم، ولا تفتّ من عزمهم. وله في ذلك مقولات ستبقى على مر الزمن: ربنا موجود، كلو للخير، مصيرها تنتهي. بينما كان يرى وينصح ويُعَلِّم الشباب أنه لا توجد ضيقة دائمة تستمر مدى الحياة، ولابد من هدوء الأعصاب دون ضَعف أو انهيار، وكان يُعَرِّف الضيقة بأنها فعلٌ ضاقَ القلب عن احتماله. لقد تجلت وطنية الراحل العظيم البابا شنوده الثالث عندما قال قولته الشهيرة بأن رجليه لا تطآن أرض القدس إلا بصحبة إخوته من المسلمين، ولعل في هذا الدليل القوي والقاطع بإحساسه العميق بالمواطنة الصادقة والأمينة، وهذا ما اتخذه الأقباط منهاجاً اجتماعياً وعرفاً دائماً يُسَمَّى حب الآخر وإن اختلفت العقائد والمذاهب. لقد انتقل الراحل العظيم البابا شنوده الثالث في مساء السبت الموافق 17 مارس 2012م، فبكاه الجميع في كل أنحاء العالم على اختلاف مللهم ومعتقداتهم، هتفت الخناجر بجلائل أعماله وسالت الدموع عليه بحرقة شديدة؛ دموع صادقة ما عرفت الزيف والتزلف، بكاه الرجال قبل النساء وبكاه الشباب الذي نَعِم بخدمته وصداقته، وبكاه أيضاً الأطفال، الملائكة الأرضيين، والذين افتقدوا عطفه وحنانه ورعايته، وتحدث عنه الكثيرون على اختلاف رتبهم ومقاماتهم؛ قال عنه الأنبا صرابامون أسقف أمدرمان وتوابعها أنه كان عظيماً في روحانياته ومحبته الحقيقية لله، وعظيماً في شجاعته، وعظيماً في علاقته مع الناس فله ملايين المحبين، وعظيماً في رجاحة عقله، وعظيماً في تأثيره على الآخرين من سامعيه، عظيماً كان في دأبه على عمله فلا يكل ولا يمل، عظيماً كان في مبادئه وتمسكه بوصايا الإنجيل وتعاليمه، عظيماً في سهره ليل نهار على هموم كنيسته، عظيماً في عطائه للمحتاجين، عظيماً في اتضاعه، عظيماً في وطنيته، وكذا عظيماً في موته. وكذا قال عنه الأنبا إيليا أسقف الخرطوم وتوابعها "أبي الحبيب قداسة البابا شنوده الثالث، لقد سَمَحت السماء أن توجد في عالمنا زماناً لتخدم فيه كرسي مارمرقس، فخدمته بكل ما أوتيت من حب وبذل وفكر وحتى النَفَس الأخير.. لقد طبَّقت على نفسك المبدأ الذي علَّمته لنا.. ينبغي أن نعطي من أعوازنا". وقال عنه أيضاً الدكتور أحمد الطيب إمام الأزهر الشريف "لقد فقدت مصر بفقده أحد رجالاتها العدودين، وفي ظروف دقيقة، تحتاج فيها لحكمة الحكماء وخبراتهم وصفاء أذهانهم، وكان من أكبرهم قداسة البابا". وقال عنه باراك أوباما رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية أنه الزعيم الروحي المحبوب للمسيحيين، كان داعية للتسامح والحوار وكل المصريين يقدرون إسهاماته في مجال الوحدة والتعاون المشترك بين المسلمين والمسيحيين؛ سنظل نذكر البابا شنوده للأبد كرجل لديه إيمان عميق كما أنه كان زعيم دين. وقال عنه الفريق أحمد شفيق: فقدنا قيمة كبيرة وحبراً جليلاً وشخصية وطنية حظية بتقدير كل المصريين، مسلمين وأقباط، واحترام المجتمع الدولي والشخصيات العالمية. وإن فقدان قداسته سيترك فراغاً بين كل المصريين، وإن ذلك سبب حزناً شديداً للجميع. وقال عنه رجب طيب أردوغان: إن الميراث الروحي للبابا يمثل مبادئ هامة يجب أن تؤخذ في الاعتبار، بكل جدية، أثناء حركة التطور والتحول القائمة حالياً في المنطقة، والناشئة عن المطالب الشعبية المشروعة؛ حيث تُمَثِّل منهجاً شاملاً وسليماً دون أي تمييز ضد الدين أو الطائفة أو الخلفية العرقية. وقال الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية: (البابا صنع الحب في كل لم يستطع أن يفعله أي انسان). هذا الحب الكبير الذي تركه عندما رحل، كما قال آخرون كثر كلمات طيبات في حق الراحل العظيم، مثلث الطوبى قداسة البابا شنوده الثالث. وهكذا بفقده الذي مضى عليه العام، لا زالت الدموع تملأ المحاجر، والقلوب لا زالت منكسرة تذكره كشخصية متعددة المزايا والخصال؛ معلم الأجيال، وراعي الرعاة، وكارزما سياسية واجتماعية، لاهوتي من طراز فريد، عالم ومؤرخ صادق أمين، موسوعي المعرفة، وطني حتى النخاع، خطَّ في دفتره أحرفاً مضيئة في التاريخ لا تنسى، نسأل الله أن يتقبله في زمرة الشهداء والصديقين في أحضان الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب شفيعاً لأمته ولكل العالم الذي يئن من الضيقات والأوجاع، كما نسألك يا الله أن تعين خلفه وتمسك بيمينه لأداء مهامه ومسؤلياته، آمين. وإلى لقاء