مازلت أحمل بين طيات عقلي ذكرى طفلة كانت تخطو أول خطواتها في طريق الحب، وعلى رصيف أمنيات البراءة كانت تتخلى عن نشوة اللعب القصوى عندما تسمع صوت الآذان، تترك خلفها ضحكات الصغار وألعابها المبعثرة لتدعي أنها تريد تعلم الصلاة فقط لتلتمس القرب منه حد التنفس في ساعة صلاة وصوت آذان. لم أكن أعلم يومها أنني سوف اتخذ من هذه الصلاة وهذا القرب أسلوب حياة بأكملها، ومازالت على خدي آثار قُبلة رسمت دخولي ملامحي لجامعة الخرطوم، وبين أضلعي بقايا عناق أبعد عني شبح الموت وأنا أدخل غرفة العمليات. في مختلف دروب الحياة التي واجهتني كان الجميع يقف عند اسم أبي قليلاً، فهو غريب عنهم في النطق والمعنى، وعن المعنى كان دائما يتأرجح بين اثنين: فأبي يرى أن له دلالة دينية ويقول إن بُدل مفرد بُدلاء وهم الزهاد وأصحاب التقوى وفي اللغة العربية يعني الفرح والسرور. أما أنا كنت أرى أن بُدل ليس اسماً وإنما صفة كونت أبي ودلت عليه، لذلك يستحيل أن يكون في هذا العالم بُدل آخر. لي مع أصدقاء والدي قصص يطول شرحها، كانوا يرون أنه قد أبعدني عن الطريق الصحيح لفتيات جيلي عندما علمني أصول السياسة والزراعة والدين وفنون الحياة، ولكنه كان يرى أنه قام بتربية ابنة على قدر من الثقة والوعي. فعلاقتي معه كانت علاقة صداقة وحبه لي كان دائما منبع احترامي لرجل هو بالنسبة لي كل شيء. ورغم اعتراضهم غير المعلن على تلك الحرية التي أعطاني إياها والدي إلا أن علاقتي بهم كانت علاقة صداقة لطيفة وقوية. جلسات المساء التي كانت تجمعنا لمطالعة صفحات الجرائد كانت من أحب الأوقات إليّ لأنها كانت بمثابة جلسة ثقافية سياسية يديرها رجل من سلالة الاتحادي الديموقراطي والأحاديث التي كانت تدور بيني وبينه ونحن في طريقنا إلى مسجدنا العتيق عادة ما توصف بالأهمية والشفافية، فنحن نتكلم في أي شيء وكل شيء أو تكون بقية كلام كان يجب أن يقال بيننا، ولكن سرقه منا الزمن. كثيرة هي التفاصيل التي حدثت بيننا جميعها كانت تثبت أنه لم يكن أباً فقط. بُدل يوسف: هل قلت لك قبل الآن أحبك؟ أعتقد أني قلتها، هل أخبرتك بفرح كم أنا مشتاقة إليك؟ نعم فعلت الآن، فقط سامحني لأني لم أقل لك أحبك أكثر، ولأني أشتاقك بألم أكثر، مهما غيبك الموت وأبعدك عني الترب وأضنتني هجرة الروح ستظل تاجاً على رأسي أينما كنت.