دورتموند يصعق باريس ويتأهل لنهائي دوري أبطال أوروبا    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    شاهد بالفيديو.. البرهان يصل من تركيا ويتلقى التعازي في وفاة ابنه    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السفير خالد موسى يكتب للسوداني
نشر في السوداني يوم 08 - 01 - 2014

جديرون بالاحترام: ضد هيكل في إفاداته الأخيرة عن السودان
ظلت علاقة هيكل بالسودان تعاني من ذات الحساسيات التاريخية مع الشقيقة مصر
أساء للسودان عندما عاب طعام أهله ووصف بعض نسائه في المزارع والأرياف بما لا يليق.
لم أجد وصفا يليق بهذا الحكم سوى أنه استعلاء فارغ وجهل مسف لعلامة بارزة في تاريخ الصحافة العربية
خالد موسي دفع الله
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته
(السودان عبارة عن (جغرافيا) فقط أي أنه ليس شعبا أو أمة أو دولة). هكذا لخلص الأستاذ محمد حسنين هيكل السودان في إفاداته التي قدمها لقناة سي بي سي المصرية الأسبوع الماضي في حوار شامل تحت عنوان (مصر أين؟ ومصر الى أين) في خواتيم العام 2013. ولم أجد وصفا يليق بهذا الحكم سوى أنه استعلاء فارغ وجهل مسف لعلامة بارزة في تاريخ الصحافة العربية. وقد طوف هيكل كعادته في مثل هذه اللقاءات على تطورات الوضع الإقليمي والداخلي، متحدثا عن النظام العربي الإقليمي وأشار إلى أن مصر فقدت قوتها الناعمة المتمثلة في الثقافة والفن التي تكونت عبر حقب متطاولة، وقال إن عام 2014 يبدو حاسما لمستقبل مصر الذي يعتمد استقراره على التحالفات الإقليمية، وانتقد رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان وقال رغم أهمية تركيا إلا أن أردوغان تسيطر على ذهنه الأساطير لأنه فقد مصر بسهولة وأبدى حماسا للعلاقات مع إيران كما انتقد سياسة قطر في المنطقة مؤكدا أن الغنى لا يصنع قوة. قبل هذه المقابلة التلفزيونية زار هيكل لبنان والتقى الشيخ حسن نصر الله زعيم حزب الله كما التقى أسرة صحيفة السفير اللبنانية وقدم إفادات عن الوضع الداخلي في مصر وقال إن الإخوان المسلمين لا يستحقون السلطة في مصر حتى بالمعايير الديمقراطية داعيا إلى الحفاظ على وجودهم داخل النسيج السياسي ولكن حسب ما تسمح به قواعد اللعبة وليس على اعتبار حجمهم الجماهيري. وأنا أشاهد هذه الحلقة تذكرت النقد الهادر الذي واجهه الدكتور سيار الجمل عندما نشر كتابه (في تفكيك هيكل) الذي هاجم فيه منهجية محمد حسنين هيكل وعده متطفلا على التاريخ السياسي وقال هو مجرد صحفي وليس مؤرخا سياسيا، مؤكدا أنه لن يقبل به طالبا معه في الفصل لأنه لا يملك المؤهلات العلمية الكافية لأداء هذا الدور الذي يدعيه لنفسه.
ظلت علاقة هيكل بالسودان تعاني من ذات الحساسيات التاريخية مع الشقيقة مصر، وهي ما عرف عند النقاد بأزمة الهيكلين. وهو الدكتور أحمد حسنين هيكل الذي كتب (عشرة أيام في السودان) وهي مشاهداته لدى افتتاح خزان سنار. وعدت النخبة السودانية كتابه تشويها وإساءة للسودان عندما عاب طعام أهل السودان ووصف بعض نسائه في المزارع والأرياف بما لا يليق. مما حدا بالبعض أن يرد عليه كتابة، ومن ثم ألف المؤرخ محمد عبدالرحيم كتابه (دفع الافتراء) ردا عليه. أما الأزمة الثانية فهي مقال محمد حسنين هيكل عام 1964 (ثم ماذا بعد في السودان) الذي أنكر فيه أن تكون أكتوبر ثورة حقيقية. فهاجمه جيل أكتوبر. وجاءت حادثة احتكاكه مع الرئيس الأسبق جعفر نميري في الطائرة والتي يقول الرواة أنه لكمه في وجهه حتى تدخل الرئيس السادات قائلا (ده أيه ده يا جعفر).
وظل هيكل يتحاشى زيارة السودان رغم تطوافه الذي لا ينقطع على العواصم العربية والإقليمية. وعندما التقت به مجموعة من المعارضة السودانية بقيادة المرحوم د. عمر نور الدائم في التسعينيات بترتيب من الصحفي الراحل يوسف الشريف وصفوه بأنه ( مثل شجر الدليب ترمي بظلها بعيدا عن أهل البيت) مما يعني أنه يتحاشى الدخول في معمعان السياسة السودانية خوفا من استثارة الحساسيات التاريخية.
عندما طالعت إفادات وزير الخارجية الاستاذ علي أحمد كرتي مؤخرا في حوار صحفي بشأن تسليم مصر ذخيرة فاسدة أي (فشنك) للسودان في صفقة مشتركة تذكرت موقف الكوميديان عادل إمام في مسرحية الواد سيد الشغال عندما أراد الدخول على زوجته ولم يكن يدرك أنه كان محللا فقط لسيدته التي يعمل معها حتى يتزوجها مجددا طليقها الثري. ولما رفضت أن يمسها قال لها (أنت عايزة صحابي يقول عليَّ فشنك). ولما أفتى المأذون بعدم صحة طلاقه منها حتى يدخل بها قال (الله أكبر).
والأمر لدى النخبة السياسية في السودان لم يكن مجرد ذخيرة (فشنك) بل مسيرة تاريخ وسلوك مستقر ونظرة مستعلية لأن مثل هذه الأشياء الصغيرة تتطور لتصبح موقفا صلبا، لذا ظلت صورة مصر في الذهن الشعبي السوداني أقرب إلى شخصية (منسي) ذي الأصول المصرية في عمل الطيب صالح الإبداعي الذي كان يرى الدنيا عبارة عن ضحكة كبيرة ممتدة (إن الحياة نكتة كبيرة وضحكة متصلة وفهلوة لا تنقطع وضرب من شغل الحلبسة).
إن إفادات الأستاذ هيكل الإعلامية عن السودان في نهايات عام 2013 لا تخرج عن سياق آرائه التاريخية عن السودان التي ظل يرددها منذ مطلع الخمسينات. وهي أن السودان عبارة عن حديقة خلفية للنفوذ المصري وأنه في هامش الهم الإستراتيجي المصري إلا عند الضرورات القصوى التي تهدد الأمن القومي المصري. وقد كشف هيكل عن نظرته تلك في مراسلاته السرية المحظورة إلى الرئيس الأسبق (حسني مبارك) والتي نشرها بعد ذلك في كتابه (زمن حسني مبارك) بعد ثورة 25 يناير.
يقول هيكل.. "وعلى سبيل المثال أخيرًا، فإن مصر عقدت مع السودان اتفاقا تكاملا - لم أكن متحمسًا له، وإن لم أكن بالتأكيد ضده - لكن كل شيء لابد أن يجيء بمعيار، خصوصًا أن تلك لم تكن المرة الأولي أو الثانية أو الثالثة التي توقع مصر فيها مثل هذا الاتفاق مع السودان. وظني أن التكامل - إذا أريد له أن ينجح - يحتاج إلى ما لا يملكه الطرفان الآن من الموارد والحقائق! وفي بداية الأمور ونهاياتها، فإن الالتفات للسودان - مع فائق أهميته - ليس بديلاً عن دور مصر العربي - وبالغ خطورته. وقد أكون مخطئًا - يا سيادة الرئيس - فيما رأيت ولاحظت، لكني أصدر فيما أقول عن نظرية للأمن القومي المصري، أؤمن بها".
هنا وضع هيكل كفتين لموازين الأمن القومي المصري، إما الالتفات إلى البعد العربي، ودور مصر الإقليمي أي الاهتمام بقضية فلسطين والصراع التاريخي مع أسرائيل، أو التركيز على البوابة الجنوبية وهي السودان. ولا يخفي هيكل ترجيحه لكفة التوجه نحو الشمال الشرقي أي الاهتمام بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، وعدم الاهتمام بالسودان، لأنه لا تتوفر الحقائق والموارد الضرورية لتلك العلاقة. وينبع إيمان هيكل بإستراتيجية التوجه شرقا، وجعل الصراع العربي الإسرائيلي هو مركز إستراتيجية الأمن القومي المصري، - ينبع من- البحث عن دور قيادي وطليعي لمصر في المنطقة العربية. أما البوابة الجنوبية، أي السودان فهو لا يعطي مصر دورا رياديا في المنطقة العربية هذا فضلا عن أن السودان لا يشكل أي خطورة على الإطلاق على مرتكزات الأمن القومي المصري. لكن في المقابل لا تحتمل مصر وجود نظام معاد لها في الخرطوم أو مستقل عن نفوذها السياسي الذي اكتسبته بالتأثير المباشر، ووجود نخبة سياسية موالية، وصيرورة التراكم التاريخي. وأتذكر في هذا السياق الحوار الذي تم مع وزير الخارجية الأسبق د. مصطفى عثمان وكوندليزا رايس مساعدة وزير الخارجية للشئون الأفريقية في عهد كلنتون ومستشارة الأمن القومي للرئيس أوباما الآن. قالت كوندليزا رايس للدكتور مصطفى إسماعيل: ارتكبت حكومة الإنقاذ كل الأخطاء ولكنها أصابت في شيء واحد وهو استقلال السودان من النفوذ المصري.
قال هيكل في مقابلته مع قناة سي بي سي المصرية الأسبوع الماضي إن السودان هو عبارة عن وضع جغرافي فقط. مما يعني أنه لم يرتق إلى مصاف الدولة أو الأمة. وتعني العبارة كما سنوضحها في سياقها التاريخي أن السودان عبارة عن كتل قبلية وجهوية صماء لا تجمع بينها هوية وطنية جامعة أو شعور قومي صادق أو روح سودانية خالصة. وهو يعني بهذه العبارة أن الانتماء في السودان للقبيلة وليس للوطن. وتنم هذه الإفادة عن ذهنية استعلائية لا تدرك الأبعاد التاريخية والحضارية للسودان في المنطقة. وهو ذات ما عبر عنه هيكل في كتابه الشهير (خريف الغضب) عندما عير السادات بسواد بشرته وأصله السوداني وقال إن السادات كان يعاني من عقدة لونه ودمائه السودانية. وقال هيكل في خريف الغضب إن أم السادات (ست البرين) كانت ابنة رجل يدعى خير الله تم استرقاقه وبيعه في دلتا النيل وقد ورث السادات من أمه ست البرين تقاطيع الزنجية وورث مع هذه التقاطيع مشاعر غاصت في أعماقه بعيدا. وقال إن السادات ظل يعاني من عقدة اللون حتى مماته. وهيكل بالرأي السابق عن أن السودان حالة جغرافية فقط يؤكد أنه لم يزل واقفا في محطة 1953 التاريخية عند زيارته للسودان. لأنه وصف السودان للرئيس عبدالناصر بعد زيارته للخرطوم آنذاك قائلا: إن السودان هو مجموعة قبائل متفرقة قد تجمع بينها تحالفات ظرفية وعابرة ولكنها سرعان ما تذوب وتتلاشى وهذه القبائل لا تجمع بينهما هوية وطنية جامعة أو دولة حديثة. وقال هيكل في حديثه للقناة المصرية إنه أدرك منذ ذلك التاريخ أن الجنوب سينفصل من السودان. وذهب أبعد من ذلك وقال: السودان الراهن ليس دولة متماسكة بل هو أربع سودانات في الشمال والجنوب والشرق والغرب. وأبدى هيكل في تحليله في سياق نظرته للراهن المصري اهتماما بدولة جنوب السودان وقال يمكن لمصر أن تستفيد من الإمكانات الزراعية الهائلة في جنوب السودان والموارد المائية والطبيعية. وضرب صفحا عن ذكر أي تعاون إستراتيجي أو اقتصادي بين السودان ومصر وهو رغم الوضع الراهن المضطرب إلا أنه من ناحية إستراتيجية لا يوجد بديل للبلدين سوى التعاون المشترك في جميع المجالات. وهيكل في سياق هذا التحليل يجعل من دولة جنوب السودان بديلا للعلاقات التاريخية للسودان في سياق التعاون الاقتصادي وسد الفجوة الغذائية التي ستواجه مصر خلال العقود القليلة القادمة لضيق المساحات الزراعية وزيادة الكتلة السكانية.
حسب روايته السابقة والتي سردها في حلقات برنامجه التوثيقي (مع هيكل) بقناة الجزيرة سابقا فقد التقى هيكل في زيارته للسودان في عام 1953 بالسيدين عبدالرحمن المهدي وعلي الميرغني. ورفض الميرغني أن يحدثه في السياسة وطفق يحدثه عن ممالك النحل والنمل والطيور حتى أدرك الرسالة وأنهى المقابلة دون أن يظفر بإجابة على تساؤلاته وقال له: تحدث في السياسة مع الخلفاء. وعلى عكس ذلك الموقف تحدث السيد عبدالرحمن المهدي مع هيكل وقال ردا على سؤاله عن تفضيل حزب الأمة للاستقلال قال المهدي: نحن نتحدث مع الإنجليز لأنهم مثل السائس الذي يسوق عربة الكاريته التي يجرها حصان. فالسائس هم الإنجليز وهو الذي يقود العربة ويوجهها حيثما يريد. أما الحصان الذي يجر العربة فهم المصريون والحصان يأتمر بأمر السائس ولا يخالفه في أمر لذا فإن السيد عبدالرحمن المهدي يتحدث مع الإنجليز عن أمر استقلال السودان وليس مع المصريين. وقال هيكل معلقا على حديث السيد عبدالرحمن المهدي إنه حديث ينطوي على حكمة وبعد سياسي واقعي.
ظل الأستاذ هيكل يفاجئ النخبة السودانية في كل مرة يطل فيها عبر النشر والإعلام بالتعليق على حوادث تاريخية تعارض تماما ما وقر في وجدان ومعرفة وإدراك الشعب السوداني. ومثالا لذلك كتب هيكل عن رئيس وزراء السودان الأسبق محمد أحمد المحجوب على هامش كتابه (بين الصحافة والسياسة) بأنه توسط لدى عبدالناصر لإطلاق سراح العقاد. وعرفه في هامش الكتاب أنه رئيس وزراء السودان الأسبق واتهمه بأنه زير نساء، رغم صداقته العريقة معه. وتلك تهمة أبعد ما تكون عن المحجوب الذي عرف بالثقافة والعفة والفصاحة البيان. وقد نفى لي الأستاذ الراحل أحمد سليمان المحامي هذه التهمة المقيتة من قبل هيكل، وكما هو معروف كان أحمد سليمان صديقا مقربا من المحجوب، مؤكدا أن المحجوب كان مشهورا بالعفة والكرم إضافة إلى صفات النجابة والقيادة، والفصاحة والبيان، كما هو معلوم.
قال الأستاذ هيكل في ذات السياق: إن الرئيس نميري بعد مؤتمر القمة العربية في الرباط في ديسمبر 1969 أعرب عن قلقه من الاهتمام بالثورة الليبية أكثر من السودانية. وقد التمس نميري من عبد الناصر زيارة السودان حابسا غيرته من زيارة ناصر إلى بنغازي أولا، رغم سبق ثورة مايو في السودان على ثورة الفاتح في ليبيا..وقد أشار هيكل إلى هذه النقطة مجددا عندما نقل وقائع الاجتماع الأول بين جمال عبدالناصر والقيادة السوفيتية في زيارته الأولى لموسكو، حيث أبدى الروس اهتماما بثورة الفاتح لموارد البترول بينما لم يكترثوا للتغيير الذي حدث في السودان رغم أنه محسوب عليهم في بادئ الأمر.
استجابة لطلب الرئيس الأسبق نميري، زار عبدالناصر الخرطوم في رأس السنة الفاصلة بين سنوات القلق والغليان 1969-1970. وفي الخرطوم ذهب إلى منزل الرئيس نميري وتعرف على أسرته، كما خاطب عددا من الحشود الجماهيرية، واستغل نميري تلك الزيارة ليعلن قرارات التأميم المشهورة. في الخرطوم انبثقت التوجهات الإستراتيجية الجديدة لعبدالناصر في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث قال عبد الناصر لهيكل إنه بعد أن اتضحت المواقف العربية في قمة الرباط، وحدوث ثورة السودان وليبيا، لا بد من نقل الصراع من الإطار المحلي إلى النطاق الأقليمي والدولي. ولابد من تأثير الصراع العربي الإسرائيلي على موازين الحرب الباردة بين القطبين، وفي ذلك الوقت قرر عبدالناصر زيارة موسكو لرفع وتيرة الصراع إلى المستوى الدولي ليكون جزءا من أجندة الحرب الباردة. يقول هيكل: "كان الناس يحتفلون برأس السنة في الخرطوم، وأنا أتمشى على شاطئ النيل، متجها نحو حدائق المقرن حيث يلتقي النيلان الأبيض والأزرق، وكنت مهموما أفكر فيما قاله لي عبدالناصر من ضرورة رفع الصراع إلى المستوى الدولي". وكانت السنة التي شهد ميلادها هيكل بالخرطوم حبلى بالجديد والمثير في خارطة الصراع العربي الإسرائيلي وإعادة تشكيل الخارطة العربية.
وزعم هيكل لنفسه دورا تاريخيا لمنع ضرب الجزيرة أبا بسلاح الطيران المصري. وحسب روايته: اتصل الرئيس الراحل نميري بالرئيس عبدالناصر في مطلع عام 1970 شاكيا من ازدياد المعارضة المسلحة للثورة من قبل الأنصار بالجزيرة أبا، وعدها منفذا لعودة الرجعية مما يستدعي التعامل معها بحسم. وطلب نميري الاستعانة بسلاح الجو المصري. وعرض هيكل نص المحادثة التي جرت بين نميري وعبدالناصر حسب رصد هيئة الإرشاد المصرية، حيث وصف هيكل المحادثة بالوضوح التام.. وسرعان ما أحال عبدالناصرالطلب السوداني إلى الفريق فوزي وزير الحربية طالبا إعداد العدة والتجهيزات للقضاء على الأنصار في الجزيرة أبا.. وتم تحديد أسراب الطائرات التي كانت تضم الأنتنوف، وقادة السرب منهم العميد مصطفى أمين، والعميد محمد حسني مبارك رئيس الجمهورية المصرية لاحقا. وكان أن تم نشر فرق استطلاع سياسية وعسكرية في المنطقة لتوجيه وتصويب الضربات.
وقال هيكل: "عندما أطلعني جمال عبدالناصر على خطة ضرب الجزيرة أبا بواسطة سلاح الطيران المصري، طرحت له رأيا مغايرا، مشيرا إلى أنه لا يجوز أن يتدخل سلاح الجو المصري لإراقة دماء الشعب السوداني مهما تكن الخلافات السياسية. وأن تدخل مصر العسكري في معركة الخلاف السياسي مع الأنصار سيسمم مستقبل العلاقات بين البلدين إلى الأبد، كما أشار حسب زعمه إلى أهمية منطقة حوض النيل، وضرورة الابتعاد عن أي تدخلات عسكرية للحفاظ على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل. واقترح بديلا للضربة العسكرية حل المشكلة سياسيا. وقال هيكل عارضا وثيقة أخرى بخط عبدالناصر موجهة للفريق فوزي وزير الحربية، أن رأي هيكل يبدو معقولا لأنه لا توجد أهمية سياسية للجزيرة أبا، بل يجب الاهتمام بالخرطوم فقط. أي يمكننا التدخل إذا تم تهديد الخرطوم وليس التدخل لقمع تمرد في منطقة نائية بالسودان. وطلب عبدالناصر من الفريق فوزي إبلاغ أنور السادات بوقف الضربة الجوية للجزيرة أبا قبل سويعات من بدء العملية.. وهنا يقرظ هيكل من القدرة القيادية للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حيث يرى أن عبدالناصر قد استمع لصوت التاريخ أيا كان مصدره، واستجاب لرأي هيكل لوقف ضرب الجزيرة أبا، وهذه خصلة نادرة في القادة ومتخذي القرار، في أن يستجيبوا للنصح والمراجعة، بل وأن يحنس وعدا بذله للرئيس نميري بالإمداد العسكري. وبالتالي ينسب هيكل لنفسه فضل انسحاب الجيش المصري عن ضرب الجزيرة أبا، مدعما ذلك بالوثائق والمخطوطات.. ولكن رغم هذه الرواية إلا أن هناك شبه إجماع وسط السودانيين أن سلاح الجو المصري تدخل بالفعل في قصف الجزيرة أبا، رغم أن هيكل يزعم أن قصف الجزيرة تم بمدافع الهاون، وربما بعض طائرات سلاح الجو السوداني، ولكنه ينفي نفيا قاطعا تدخل الجيش المصري في هذه الحادثة. ونتيجة لموقف عبدالناصر غضب الرئيس نميري وقرر اقتحام الجزيرة أبا بالجيش السوداني.
ويفاجئ هيكل في برنامجه (مع هيكل) مرة أخرى الجمهور السوداني زاعما أن الإمام الهادي مات مسموما بفاكهة قدمت له في كسلا في طريقه للهرب واللجوء نحو إثيوبيا..ويؤكد ذلك بتحديد نوع الفاكهة (مانجو).. وقال إن هذا النوع الغامض من الاغتيالات مشهور في أفريقيا، بدليل أنه لم يتم التوصل إلى القاتل الحقيقي حتى اليوم.. في المقابل تكشف ملابسات التاريخ المثبتة، والتحقيقات التي أجريت فيما بعد أن الإمام الهادي اغتاله أحد أفراد البوليس في الحدود المشتركة مع أثيوبيا. واستعرض هيكل ضمن وثائقه خطاب بعثه الرئيس نميري إلى عبدالناصر في 8 أبريل 1970، ابتدأ الخطاب بالصيغة التالية (أيها الأخ الرئيس جمال)..وقال هيكل إنه أدرك على الفور أن محرر الخطاب شيوعي لأن صيغة النداء التي تبدأ (بأيها) من متلازمات الخطاب العقائدي لدى الشيوعيين. وحمل الخطاب الذي أرسله نميري إلى عبدالناصر ربطا أيدلوجيا بين التطورات السياسية في الداخل، وبين ما يحدث على الساحتين الإقليمية والدولية، حيث أشار إلى أن الاستعمار ظل يكثف مؤامراته منذ يونيو 1967، ولكن انفجار الثورتين مايو وسبتمبر في السودان وليبيا خلقتا روافد جديدة للثورة العربية الاشتراكية..وهنا قال هيكل: إن خطاب نميري أدرك مسار التاريخ.
في إفادته الجديدة لقناة سي بي سي المصرية ردد هيكل ذات قناعته السابقة والتي كونها في العام 1953 عقب قيام الثورة المصرية عن أن السودان هو عبارة عن جغرافيا وتحالفات قبلية مما يعني أنه ليس دولة أو شعبا أو أمة لها هوية وطنية جامعة. وهو وصف يتعارض مع حقائق التاريخ وراهن السياسة وواقع المجتمع السوداني وجذوره الحضارية وطبعه المدني. بل هو سيد شعوب العالم. وكما قال الراحل صلاح أحمد إبراهيم نحن جديرون بالاحترام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.