جلست أصغي إليه بكامل انتباهي وحضوري وقد انتبذت ركنا قصياً أحتمي به من الانصراف والتشتت اللذين توفرت لهما العوامل والأسباب. المفاجأة كانت كبيرة وملجمة ومباغتة إذ ما كنت أتصور أنه سيطلب مني أن أكتب له مقدمة لكتاب يكتبه، وللحقيقة والتداعي أقول إنني ما تصورته كاتباً قط مع كل ما يحيط به من شهرة طافت الآفاق. وفي عمق المفاجأة أيضاً أن يكون الكتاب عن مصنع الشفاء وتلك الملهاة والعبثية التي أنهى بها الإنسان قرنه العشرين وألفيته الثانية بصورة تثير الأسف والتندر عند إنسان القرون الأولى. أغرقت نفسي في المسألة فاستوعبتها تماماً وبدأت أعد نفسي لها فبادرتني نفسي بالسؤال: أو يا ترى اختارك لهذه المهمة بوصفك المالك لمصنع الشفاء، أم بوصفك كاتباً يفصله خيط رفيع بين هواية الكتابة واحترافها؟ أم أنه قد اختارك لأنك تجمع بين هذه وتلك؟ ربما أرجأت الإجابة عن هذه التساؤلات لتتضمنها سطوري تقدمة للكتاب، لكنني أصدقكم أن سحابة صيفية قد حملت غروري وضمختني بإحساس أترك لكم تقييمه بأن صاحبنا قد اختارني كاتباً لا مالكاً كي أقدم لكتابه. والكتاب المزمع إصداره ليعانق عيون القراء في العشرين من أغسطس القادم سياحة فكرية وعلمية وإنسانية توفرت لها كل عوامل نجاحها من بحث دؤوب حول حادثة القصف وسراديبها وأسلوب سلس يعرض للأشياء في عقلانية ومنطق وينأى عن الإسفاف وفجور الخصومة. لكن صاحبي وقد أودعني نسخة من مسودة الكتاب قد أراد شيئاً في نفسه وهو يقول لي: سمعت أحدهم يقول عنك: إنه قد تعب في الوصول إليك لإنهاء صفقة تجارية كانت قيمتها تفوق مائة مليون دولار، وحينما وجدك لم تستجب وقلت له إنك مشغول بتلحين قصيدة. ثم أضاف يحدثني عن تخوفه ألا أتمكن من إجابة طلبه فطمأنته بأنني سأطلع على المسودة وسأسعد بكتابة المقدمة مشيراً إلى أنني قد تعلمت من كثير أسفاري أن أقرأ كثيراً وأكتب كثيراً وألحن كثيراً كي أعمل أكثر. ربما أراد أن يستحثني بل ربما أراد أن يحرضني وربما أراد أن يستفزني لكنني وقد غادرت مكتبه الأنيق ذاك وجدت نفسي مستحثاً ومحرضاً ومستفزاً وفي النفس قوة عارمة ظاهرة وخفية كي أنجز له مطلبه. مفعم أنا بشعور من العرفان، عظيم، وإحساس بعميق بدين عليّ أن أؤديه لإنسان تذكر مصنع الشفاء في وقت نسي الناس كلهم المصنع وصاحبه وصواريخ توماهوك التي أحالته أثراً بعد عين. الخمسة الأعوام قد مرت وما زال الوفاء الذي لا يهم إن كان وفاء للبلد أو لإنسانه الذي ضربته صواريخ توماهوك في واحدة من مكتسباته ومفتخراته وموفرات دواءاته وعلاجاته. وأنا أغادر مكتبه مفعم بما ذكرت عدت إلى لحظة ماطرة بالشجن إذ كنت أجيب عن أسئلة محققين أمريكيين وحوت الإجابة حديثاً عن ابني مصطفى، ابن السبع السنوات وقتها، وأحلامه في أن يدير المصنع حينما يكبر فإذا المصنع يستحيل أنقاضاً قبرت تحتها أحلام ذلك الطفل وجيله. ووجدت نفسي أبكي في قوة والمحققون يصمتون ويديرون دفة الحديث من ضعف وانهزام بين. ما عدت إلى تلك اللحظة المترعة بالشجن مجرد أن كتاب النظام العالمي الجديد: قوة القانون، أم قانون القوة الذي طلب مني التقديم له قد كتبه الأخ الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل الذي يتوافق اسم ابني مصطفى مع اسمه ولكن ما أعادني إلى تلك اللحظة الباذخة هو أن الأحلام لا تموت ما دامت هناك عزيمة تحييها وتوقظها. والحقوق لا تضيع ما دام هناك من يسعى لاستعادتها. فكانت المقدمة ========= (النظام العالمي الجديد: قوة القانون أم قانون القوة؟) اسم قد لا يستوقف أحداً يبحث لنفسه عن كتاب في ظل عدد كثير من الكتب منها ما صدر فعلاً وأخريات في رحم الصدور تعرض كلها لواقع عالمنا المعاصر ونظامه الجديد. لكن ما يستوقف حقاً ويحظى بكثير انتباه واهتمام إنما أمران أولهما كاتب الكتاب الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل قائد كتائب الدبلوماسية السودانية في واحدة من أصعب وأحرج أوقاتها، أما الأمر الثاني فهو قصف مصنع الشفاء الذي اتخذه الدكتور مصطفى مولجاً لتقييم ذلك النظام العالمي الجديد. وعلى الرغم من كل ذلك الاهتمام الواضح والكبير في الغرب وبما يشبه الصرعة، بأدب الفضائح فإن كتاباً واحداً لم يصدر عن جريمة قصف مصنع الشفاء تلك الملهاة الإنسانية العابثة التي اتخذ القرار فيها رجل بين مسئولياته رئيسا لأكبر دولة في العالم وفي ظروف واجهت فيها أكبر إهانة لها عن تاريحها حتى ذلك الوقت بتلكما المليتين الإرهابيتين اللتين تعرضت لهما سفارتاها في نيروبي ودار السلام وهمومه الشخصية بعد أن غرق في وحل الفضيحة وتلك العلاقة الآثمة مع المتدربة مونيكا ليونسكي. لم يصدر كتاب واحد عن مصنع الشفاء المأساة الواقعية التي نعرف أشخاصها ومواقفهم وآثار المأساة نفسها، وفي المقابل فإن فيلماً سينمائياً قد صور (Wag The Dog) لقصة مماثلة مع الفارق قد صاغها خيال شاعر. ولم يصدر كتاب واحد عن قصف مصنع الشفاء الذي كلف الولاياتالمتحدة الشيء الكثير من هيبتها وسمعتها وكلفها في الإطار المادي قرابة عشرين مليونا من الدولارات تكفل بها دافع الضرائب المغلوب على أمره. لم يصدر كتاب عن هذه العملية المكلفة والغارقة في الشأن العام أمريكياً وعالمياً ورغم ذلك صدر أكثر من كتاب عن فضيحة مونيكا ليونسكي رغم أنها تدخل في الشأن الخاص وإن كان بطله الرئيس الأمريكي شخصياً. والدكتور مصطفى عثمان إسماعيل حينما يصدر كتابه فإنه يفعل خيراً كثيراً ويستجيب لأمانة القلم فينزع لإيقاظ الذاكرة في زمان صارت فيه الذاكرة أكثر بهوتاً وخفوتاً وأنا زعيم بأن كل من يطلع على هذا الكتاب سيحس بما بذل فيه من جهد وما توافر فيه من معلومات غزيرة أضاءت ووثقت لذلك العمل الكبير للدبلوماسية السودانية التي نحتت في الصخر لتتجاوز العراقيل والمتاريس وتدك حصون الظلم والظلام والحصار. لقد تهاوت كل دعاوى الإفك والتضليل بعد ساعات من قصف المصنع فلا هو كان منتجاً لأي من الأسلحة الكيمائية أو مكوناتها ولا هو كان مملوكاً لأسامة بن لادن أو على أية صلة به ولا مثل تهديداً على أحد، بل كان مؤسسة صناعية دوائية تصنع الدواء وتيسر الشفاء لواحد من أكرم الشعوب معنى وإن كان أفقرها بالحساب المادي. قطعاً سيظهر في غد أكثر من كتاب لكن أكثرها إثارة سيكون ذلك الكتاب الذي يكشف عن مصدر المعلومات الذي استطاع بقدرة اخطبوطية أن يخدع ما يفترض أن يكون أقوى وأعتى القلاع الاستخباراتية في التاريخ بما قدمه لها من معلومات زائفة كاذبة. وسيبقى كتاب الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل أول إشارة وإضاءات الطريق التي وثقت لإحداث حسام وأعمال عظام وأبقى الباب مفتوحاً وراءه ليدخله من أراد. وبالله التوفيق. ======» التاريخ: 5/6/2003م الرقم: و.خ/م.و/1/1/7 السيد صلاح إدريس السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 1) وفق توجيه السيد وزير الخارجية مرفق لاطلاعكم مسودة كتاب جديد يعتزم السيد الوزير إصداره وهو بعنوان (النظام العالمي الجديد.. قوة القانون أم قانون القوة؟). ويتعلق الكتاب بتدمير الولاياتالمتحدةالأمريكية مصنع الشفاء للأدوية، وسيتزامن إصداره في أغسطس القادم مع ذكرى مرور خمسة أعوام على تدمير المصنع. 2) ويأمل سيادته في تفضلكم بكتابة مقدمة للكتاب وأي ملاحظات أخرى ترونها كما نأمل في موافاتنا بأي صور أو أي وثائق طرفكم عن المصنع، على أن يصلنا المطلوب خلال أسبوع من تاريخه حتى يتسنى إصدار الكتاب في الموعد المقترح. وتفضلوا بقبول وافر التقدير والاحترام. فضل عبد الله فضل مدير مكتب السيد الوزير