في دلالة على عدم الاستجابة للرغبة الصادقة لدى الخرطوم على إقامة علاقة جيدة ومتوازنة ومتطورة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، أثارت الإدارة الراهنة للحزب الديمقراطي الأمريكي الحاكم في واشنطن بقيادة الرئيس باراك أوباما حالة من السخط والغضب والاستياء في الدوائر الرسمية والأوساط الشعبية السودانية بإصرارها على المعايير المزدوجة والاستمرار في الاستخدام لما يسمى بالمحكمة الجنائية الدولية وتأييد المزاعم التي تدعيها بشأن دارفور وما جرى فيها من مأساة المتسبب فيها الحركات المسلحة المتمردة. وبينما تتصاعد حالة السخط والغضب والاستياء الرسمي والشعبي في السودان تجاه الإدارة الأمريكية لدرجة ربما تدفع إلى التساؤل عما إذا كانت سفارة الولاياتالمتحدة في مقرها الجديد بالخرطوم قد تتحول إلى نموذج جديد للأمثولة الشعبية السودانية المعروفة من الناحية التاريخية ب(عجوبة التي خربت سوبا)، فإن الموقف الأمريكي الساعي لاستخدام ما يسمى بالمحكمة الجنائية الدولية التي لا تعترف بها واشنطن وترفض الانضمام إليها لكنها تعتمد المعايير المزدوجة وتنتهجها في العمل من أجل الاستفادة منها في ممارسة الضغوط غير الموضوعية وغير المجدية على الخرطوم، إنما يشير من جهة أخرى إلى أن إدارة الحزب الديمقراطي الراهنة الحاكمة في واشنطن بقيادة الرئيس أوباما ربما لم تتعظ من التجربة الفاشلة للإدارة الديمقراطية الأمريكية السابقة بقيادة الرئيس بيل كلينتون الذي أخفق في التعامل مع الخرطوم بالاستمرار في سياسة عدائية وعدوانية ظلت متواصلة دون جدوى على مدى الفترة الممتدة منذ العام 1993م وحتى عام 2000م، وهي الفترة التي أطلق عليها الخبير البريطاني د. ديفيد هولي وصف (المهزلة الكبرى) في الكتاب الذي أصدره حولها وصدرت ترجمة عربية له عن مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في الخرطوم عام 2002م. ففي ذلك الكتاب وتحت عنوان المهزلة الكبرى ذكر الدكتور هولي الذي ساهم من خلال قيادته للمجلس الأوربي السوداني للعلاقات العامة بلندن في الرد على الحملات الدعائية المعادية للسودان، كما عمل أستاذاً زائراً بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم للعام الدراسي (2002م-2003م)، حيث ذكر أن سياسة إدارة الرئيس كلينتون تجاه السودان تميزت بالإخفاق والهزل، وربما كون أكثر الجوانب هزلاً هو إدعاء تلك الإدارة السابقة للحزب الديمقراطي الأمريكي بأن السودان الذي ظل يسعى باستمرار لإجراء حوار مع الولاياتالمتحدة والذي لم يؤذ مواطناً أمريكياً واحداً من قبل يمثل تهديداً غير عادي وغير طبيعي بالنسبة للولايات المتحدة. وقد أوضح الهجوم الصاروخي الأمريكي العدائي والعدواني على مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم عام 1998م بجلاء حقيقة من الذي يمثل تهديداً على الآخر.. ومن بين عدة أشياء فإن المعايير المزدوجة كانت واضحة للعيان هنا في المحاولات التي تقوم بها الحكومة الديمقراطية الأمريكية السابقة لإظهار عدائها للسودان بدعوى إدعاء القلق على حقوق الإنسان والتعددية والحرية الدينية. ويشير الخبير البريطاني في هذا السياق إلى أن مساعي الإدارة الديمقراطية الأمريكية السابقة التي استمرت لسبع سنوات ممتدة بين عام 1993م وعام 2000م كانت قد انتهت إلى الفشل التام في العزل السياسي والدبلوماسي للسودان، الذي بلغت علاقاته الدبلوماسية في نهاية تلك الفترة قدراً من التحسن لم تبلغه من قبل مع تجمعات دولية وإقليمية مهمة، بما فيها الاتحاد الأوربي ومصر وبقية العالم العربي ودول الخليج على وجه الخصوص، وهي الدول التي كانت واشنطن تعتمد عليها كقوى أساسية لعزل السودان. كما أن العلاقات السودانية مع دول عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ودول تزيد في مجموعها عن المائة دولة لم تكن طيبة كما كانت في نهاية تلك المرحلة، وذلك لوقوفها إلى جانب السودان وخاصة بعد القصف الأمريكي الصاروخي الأمريكي العدواني على مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم مما جعل الولاياتالمتحدة هي التي تقف وحيدة ومعزولة آنذاك. ويضيف الدكتور هولي لأن سياسة وأفعال إدارة الرئيس كلينتون تجاه السودان تميزت أيضاً بالفشل الاستخباراتي المتكرر في ذلك الحين، وتضمن هذا فشل الحكومة الأمريكية في تقييمها لطبيعة الحكومة السودانية والنموذج الإسلامي الذي تنتهجه. وقد أدى رفض الإدارة الأمريكية لتحمل المسؤولية عن التفجير والتدمير الخاطئ لمصنع الشفاء للدواء في الخرطوم عام 1998م إلى استمرار إضعاف مصداقيتها في المجتمع الدولي، وأكدت منظمة مراقبة حقوق الإنسان في تصريح لها آنذاك أن التفجير الخاطئ لمصنع الشفاء السودان في أغسطس 1998م قد أعاق بشدة مقدرة الحكومة الأمريكية في قيادة حليفاتها بخصوص القضايا السودانية، ولذلك فشلت أيضاً محاولات الحكومة الديمقراطية الأمريكية السابقة في الإطاحة بالحكومة السودانية عن طريق تقديم المساعدات اللوجستية والسياسية للمتمردين بالجنوب السوداني في ذلك الحين، ودعم تجمع ثلاث دول مجاورة للتدخل العسكري في السودان، حيث تمكنت الحكومة السودانية من أبطال تلك المحاولات للإدارة الأمريكية الديمقراطية السابقة والتي كانت هادفة كذلك لعزل السودان اقتصادياً من الوصول إلى استثمار دولي وحرمانه من القروض لمشروعات النفط السوداني حتى لا تستخدم عائدات النفط لإحداث تطور اقتصادي في البلاد. ويشير الخبير البريطاني إلى استشهاد صحيفة (واشنطن بوست) بقول أحد خبراء أفريقيا في واشنطن حيث ذكر أن الحكومة السودانية قد خرجت من عزلتها ونحن الذين أصبحنا في عزلة الآن، كما عبر سفير فرنسا لدى الولاياتالمتحدة عن موقف مماثل في ذلك الحين في تصريحه بأن سياسة إدارة كلينتون تجاه السودان قد حطت من قدر الولاياتالمتحدة بين بقية دول العالم، وثبت أيضاً أن سياسة إدارة كلينتون كانت قد أثارت كذلك مخاوف حليف أساسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ألا وهو مصر. ويضيف الدكتور هولي أن إدارة الرئيس الديمقراطي الأمريكي السابق بيل كلينتون ربما كون أسيرة لغطرسة القوة وسطوتها بين دول العالم آنذاك، ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن سياستها تجاه السودان ما هي إلا مثالاً للقصور العام لتلك الإدارة، ففي العام 1997م خصصت مجلة (تايمز) صفحة وقصة الغلاف للسؤال عن كبوة السلطة حيث تساءل أقرب أصدقاء أمريكا هل تقع الولاياتالمتحدة في خطر الهياج العالمي؟ وكذلك أوردت صحيفة الاقتصادي أن الولاياتالمتحدة لا يعتمد عليها ويمكن بسهولة إثارتها وتحويل انتباهها وهي فخورة للغاية بإبداء قوتها لمن حولها. وأضافت الصحيفة أنه لأمر مشين أن تتصرف قوة عظمى مثل ثور هائج، وأنه لأمر سيء لأنه يمس سمعتها وخاصة إذا كانت سياستها مثيرة للتساؤل بصورة واضحة كما هو الحال في السياسة الأمريكية تجاه السودان. ويرجع الخبير البريطاني د. ديفيد هولي فشل إدارة الرئيس الديمقراطي الأمريكي السابق بيل كلينتون في سياستها تجاه السودان أثناء تلك الفترة في المقام الأول إلى بعض الأشخاص المعنيين في الوظائف السياسية لتلك الإدارة السابقة، ويشير بصفة خاصة إلى أن وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك مادلين أولبرايت التي كانت تتناسب فكرياً وعقلياً مع ظروف الحرب الباردة أما ظروف ما بعد الحرب الدولية الباردة والحقائق التي اتضحت في السياسة الدولية للعالم الثالث فقد أثبتت أولبرايت عدم مقدرتها على التعامل معها، كما يشير الخبير البريطاني أيضاً إلى سوزان رايس التي ذكر أنه قد اتضح أنها عديمة التجربة ولا يمكن مساءلتها بالنسبة لمنصبها كمساعد لوزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية في تلك الإدارة السابقة. ويضيف د. هولي أن السفير السابق لبريطانيا لدى الأممالمتحدة سير جون ويستون كان قد لاحظ أن لدى السيدة أولبرايت وزير الخارجية الأمريكية آنذاك حالة جنوح نحو خلق وضع ثابت ثم البحث حولها عن من يتحمل عنها نتيجة فعلتها، وقد كانت الحرب الكونغولية وعلى الأقل جزئياً نتيجة لاحتضان السيدة أولبرايت للنظام اليوغندي وتشجيعها للقوى الإقليمية لإثارة عدم الاستقرار الإقليمي بالسودان في تلك الفترة، وهو ما يدعم رأي المندوب البريطاني في الأممالمتحدة سير جون وستون في السيدة اولبرايت وكذلك يمكن النظر إلى سياسة الإدارة الأمريكية الديمقراطية السابقة والفاشلة تجاه السودان في إطار فشل سياسة إدارة الرئيس كلينتون تجاه أفريقيا بصورة عامة، وهو الفشل الذي تجلى بصورة مأساوية في محاولاتها لإقامة ما يسمى بمشروع (النهضة الأفريقية) حيث يجب على تلك الإدارة الأمريكية تحمل المسؤولية المباشرة تجاه الأحداث في رواندا للوصول إلى ذروتها في الإبادة الجماعية آنذاك، وكذلك يتحتم على اولبرايت ورايس تحمل مسؤولية الفشل السابق للسياسة الأمريكية تجاه السودان وكل نتائجها المأساوية وأيضاً يتعين على الرئيس الأمريكي الديمقراطي السابق بيل كلينتون نفسه أن يتحمل بصورة كاملة نتائج سياساته المثيرة للتساؤل والجدل تجاه السودان، وذلك بتعيينها لأشخاص غير أكفاء وعدم مقدرته على إحداث تغيير في سياسته تجاه أفريقيا عامة والسودان بصفة خاصة حتى بعد أن ثبت فشلها، وربما لهذا السبب ستظل ذكرى فترة إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون مرتبطة بفضيحتي مونيكا ليونسكي وتدمير مصنع الشفاء السوداني للدواء في الخرطوم عام 1998م. ويشير الخبير البريطاني د. ديفيد هولي إلى أن الدليل الأخير على فشل الإدارة الديمقراطية الأمريكية السابقة بقيادة كلينتون في سياستها تجاه السودان هو السودان نفسه، حيث ثبت أنه بلد تصعب إثارته، وقد جاء هذا الانطباع عن صورة السودان بعد تعرضه خلال سنوات إدارة كلينتون الثمانية إلى مختلف أنواع الهجوم في الفترة الممتدة بين 1993-2000م فقد ظل في كل تلك الأحوال يدعو للحوار كبديل للمواجهة وبالتأكيد فهو لا زال يدعو لذلك فهل تتعظ إدارة أوباما؟.