لقد أضاء جلد البوني بتراب (اللعوتة) فتزيا به غباراً ناعماً يحدّق به على الأرض التي كانت مسرحاً للأحلام الكبرى، وتحوّلت لمسرح للهزائم الكبيرة، كأنه بانهاض (اللعوتة) رمزية للحلم الكبير يتمثل التجربة الداخلية، حيث يهبط الكاتب إلى بئر ذاته الذي يتسع ليحتوي المكان ويرفعه على أجنحة الكلام، فيصبح المكان جغرافيا داخلية، وتصبح الأحلام حضورًا متوحدًا مع الذات. لم يرفع كاتب عمود جغرافيا ذاته درجات على سُلم الصعود السلس مثلما فعل البوني بجغرافيا ذاته المسماة (باللعوتة) فاكتسبت كتابته أهمية قصوى لأنها تحرق الظلام وتنشر الضوء. اعتزال البوني للكتابة- وهو في حمأة التلبس بها- يجعلنا نفق في طابور الأجاويد لنعيد الزوجين إلى حاضنة المودة والرحمة فهو لا يقصد أبغض الحلال، وهي لم تغلق شبابيك شهوتها التي فتحتها باكرًا، هي فقط (قرفه) ومحاولة للخروج من رهق المعتاد اليومي إلى فضاء لا تكون الكتابة أحد أدواته، فالكتابة حين تتحول لحالة تشبه الوظيفة تكتسب صفات الخدمة المدنية، لكنها حين تتحرر من كل قيد وتسبح في النهر الطليق لن تبلغ سن اليأس ولا العنوسة ولاتكتسي عباراتها بالشيب ولاتصاب مفرداتها بالزهايمر. موقف البوني الجديد من الكتابة- وهو عاشقها وهي معشوقته التي لاتتجدل- يذّكرني بقصة رجل قال لزوجته: إذا لبست هذا الفستان فأنت طالق- وإذا لم أجامعك داخله فأنت أيضاً طالق! فاختارت الزوجة في هذا الوضع الملغز فهي إذا لبست الفستان طالق، وإذا لبت رغبته في جماعها داخل الفستان فهذا يعني أنها طالق لأنها لبسته، فاهتديا الى حكيم سمع القصة وقال للرجل: البس أنت الفستان وجامعها فيه. فلا أنت حَنثُ. ولاهي تحيرّت. فألبس الرؤيا ياصديقي وواصل عشقك أيها الكاتب الهطول، وأسمع حديث الحكيم المتقد! قرفة البوني لا يقابلها اعتزال الكتابة، يقابلها الاعتراف بجدوى الكتابة ليس من قبل الكاتب بل من قبل الناشر فمهمة الكاتب الإثمار بالكتابة والناشر الاستثمار في الكتابة. لكى تكون الكتابة ثمرة لابد من رعاية جهة الاستثمار بالبذور المحسنة والسقيا والنظافة و(الإجازة) ومن هنا أخاطب رجل التجديد المتواصل على صعيدي الصحافة والرياضة السيد جمال الوالي باعتماد تقليد جديد في صحيفة (السوداني) يقضى بمنح إجازة سنوية مدفوعة الأجر لكتّاب (السوداني) على أن تكون مدة الإجازة 40يوماً فالكاتب أيضاً ولود، ولا فرق بين طلق الولادة وطلق العبارة. هذا التقليد المستحدث يمكّن الكاتب من تجميع أدواته ومراجعة نصوصه ويجعله يحتشد خلال الإجازة قبل أن يتدفق من جديد. إذا ابتدعت (السوداني) هذا التقليد تكون أول صحيفة منذ عهد أحمد يوسف هاشم تقدم أنموذجاً جديداً جديراً بالاحتفاء والإشارة، ولا أظن أنها ستضن لأن طبيعة مجلس الإدارة طبيعة ذات حساسية فنية وابتكار وقد لمست ذلك بنفسي خلال الثلاث سنوات التي قضيتها بما جعلني لا أنوي مغادرتها إلا للدار الآخرة. عليه فأنت ياصديقي البوني في (إجازة سنوية) منذ أن توقفت لمدة 40يوماً، وحالما يتبنى مجلس الإدارة اقتراحي ويصدر قراره غير المسبوق البتة تكون قد قضيت الأربعين يوماً معيداً قراءة اللعوتة ومتمسحاً بترابها وجائلاً بين الروايات والأشعار ومستمتعاً بفريقك الأسير (هلال أم درمان) ومتصالحاً مع فكرة العودة ومغادراً خانة (المعتزلة) عندها سأرحب بك من جديد في عمود عنوانه (الكاتب المربعن)!