أقتصر مفهوم الثقافة في إذهان الكثيرين بالتعليم، الشهادات التي نتحصل عليها من الجامعات والأفكار بينما الثقافة لا تضم في مفهومها الأفكار فقط، بل هي تعني سلوك الأفراد في مجتمع ما وأسلوب الحياة فيه. *وعن الحضارة قيل إن التاريخ الإنساني ليس كدرجات السلم تصعد فيه الأمم من الأدنى إلى الأعلى بل إن قصة التطور أكثر ثراء وتعقيدًا فيها تحولات من الأفضل وتحولات إلى الأسوأ. نعم هناك أمم غنية وأمم فقيرة، بل هناك أمم ناهضة وأمم خاملة ولكن هذا لا يعني أن الأولى في قمة السلم والأخرى في أسفله، نعم إن الأمم الخاملة لابد لها أن تحاول النهوض ولكن النهوض لا يعني "اللحاق بالغير". بل يعني اليقظة بعد سبات والحركة بعد خمول والإبداع بدلًا من التقليد والتعبير الحر عن النفس بدلًا من الانقياد للغير. والحضارة لم تكن يومًا مذهبًا منطقيًا يقيمه العقل وحده وإنما هي مجموع مطامح الحياة إلى المثل الأعلى الذي ترجو الجماعة بلوغه. بعث حضارتنا يجب أن يكون بإحيائها من سبيل بحثها على الطرائق الحديثة لا بالتكديس على أفكارها من صفائح الغرب المستعارة ما يزيد في جمودها وتكلسها تكلسًا، يحاول أبناؤها إزالته عنها وهذا الإحياء إنما يكون بالعلم والأدب. علينا أن نلتمس المعرفة فهي أعظم أنواع التطهير.* و نجد أن بعض البشر لا يتقبلون ما هو جديد وما هو مخالف لثقفاتهم حتى وإن كانت عادات بالية (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)) سورة الزخرف. ، وأيضًا على كثرة مثقفينا في شتى نواحي الحياة لا يرى المرء لهم أثرًا يذكر، وما زلنا نرزح تحت خلافاتنا...؟؟ على أن الخصومة بين القديم والجديد أمرٌ لا بد منه لكي يتمحص خلالها أمر الجديد ولكي يألفه الناس على مهل فلا يواجهون بلبلة الإنسلاخ المفاجيء من القديم المألوف، وتنتهي الخصومة مهما تطل بانتصار الجديد إذا لم يكن نزعة فردية أو بدعة خاصة بل كان تعبيرا عن مرحلة ذات تميز شامل في كثير من وجوه الحياة. والمثقف هو الذي يحسن التعايش مع محيطه ومجتمعه وليس الأمر متعلقٌ بتحصل العلوم، والبعض منهم يعاني من انهزام ثقافي، عندما يشعر بالدونية ، وتنشأ لديه عقدة التخلف تجاه الدول المتقدمة فبدلا من العمل على تطوير نفسه وثقافته نجده قد أنغمس في الآخر حتى صار جزءا لا يتجزأ منهم،ويرد تخلفه إلى عالم (الأشياء) أي في نقص ما لديه من مدافع وطائرات ومصارف،والبعض لم تتعد الثقافة عنده سوى حرفة لأجل العيش ومكاسبه، والبعض لا تعني له أكثر من الوجاهة ويغفل عن كونها ريادة ومسؤولية. وعلى المسلم أن يرد تخلفه إلى مستوى الأفكار لا الأشياء، فإن تطور العالم الجديد دائمًا يتركز على المقاييس الفكرية. ويلجأ آخرون إلى البحث والتنقيب عما أختلفت عليه الأمة وعما يزيد شقاقها ويوسع رقعة التناحر بينها، متغافلين عما يجمع الأمة ويوحدها، إذ يتولد لدى البعض إحساس بالأفضلية فيبدأ بمهاجمة الآخر ومهاجمة أفكاره لتبرز على السطح قضايا لا تزيد الآخر إلا بغضًا تجاه الآخر. ويطل سؤال: هل يلزم في المجتمع شروط معينة حتى تكسب الأفكار والأشياء قيمتها الثقافية...؟؟ نعم ، لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلاقة في صورة أخاذة تخلع على الأفكار والأشياء قيمتها العقلية وفاعليتها الاجتماعية حين قال: ( مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب ارضًا فكانت منها بقعة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله عز وجل به الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ)، في هذا النص تدرج من الأعلى للأدنى في تصوير علاقة الفرد والمجتمع بالعلم( الأفكار والأشياء). إن النظر إلى أبعد مدى ووضع اللبنة الصحيحة للنهضة والتفكير في الآخر وكيفية إحتوائه ستشكل فارقًا كبيرا في خطوة نحو الوحدة. "والثقافة ليست علمًا منفصلًا في حد ذاته بل هو أشبه بالنواة التي تنقسم في كل مرة، فيبرز لك علم الاجتماع وعلم النفس، والتربية، والتاريخ، لذا فإن دراسة سلوك المجتمع وتاريخه ونفسية الفرد فيه تعمل على تحديد الخطوات نحو تجديد الثقافة وإزالة كل الرواسب والعادات التي تعيق التقدم ولا تتفق مع العقيدة." أي أن هذا الأمر ليس منوطًا بفرد واحد بل بالمجتمع ككل.( الفكر والمجتمع يمثلان الإطارين المألوفين) ويلزم أن يكون هناك توجيه للأفكار، وتوجيه الفكرة، هو قوة في الأساس ووحدة في الهدف وتجنب الأسراف في الجهد والوقت. "سؤال يلوح في الأفق". ما هو جوهر ثقافتنا أي مهما اختلفنا أين نلتقي...؟؟؟ أين تكمن أزمتنا الحقيقية...؟؟ وعلى أي أساس سنبني حضارتنا...؟؟ أزمة العالم الإسلامي منذ وقت طويل لم تكن أزمة في الوسائل وإنما في الأفكار، والمثقف المسلم ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زوايتها الإنسانية الرحبة حتى يدرك دوره الخاص في ثقافته، ويجب أن لا تكون الثقافة في برج عاجي لا تصل إليها أيدي الجماهير بل ينبغي أن تكون القاعدة التي ترتفع عليها هذه الجماهير إلى مستوى الحضارة. أما على أي أساس سنبني حضارتنا..؟؟ فإما أن نعرف الثقافة على انها وسيلة للأمبراطورية وإما أن نعرفها طريقًا إلى الحضارة، إذ يواجه المجتمع مشكلاته بلغة القوة أو بلغة البقاء، بقدر ما تصوغ ثقافته أسلوب حياته وسلوك الأفراد فيه. أي دراسة نفسية للمجتمع وتاريخه ( مجتمعنا) هل لدى أفراده أفكار استعمارية ونزعة للسيطرة على الآخر وتوسيع رقعة البلاد، وحتى إن وجدت هذه النزعة فهي بطبيعة الحال لا تستطيع ذلك، إذا نحن سنبني بلغة البقاء، السعي نحو بناء حضارة. وبالنظر إلى تاريخنا وإلى ما قام به الأجداد منذ عصر ما قبل التاريخ وبناء الأهرامات نرى سعيًا حثيثًا نحو بناء حضارة. أما جوهر ثقافتنا فإن الروابط الدينية تمثل الحقيقة التي تجمع الناس، وهي التي تبعث الحضارة وهذه حقيقة كل حضارة فإن لواقعنا أساسًا ثقافيًا إسلاميًا لا يمكن إعادة بناء حضاراتنا على سواه. (الثقافة تستطيع أن تمنحنا اللحظات الممتعة إذ توحي إلينا أن ننشد أحيانًا مجتمعين وأن نرقص مجتمعين ونضحك مجتمعين والأداء الحسن لذلك كله ظاهرة مشجعة وجمالية ينبغي عدم الاستخفاف بها ولكن دورها الأساسي أن تعلمنا العيش المشترك والعمل المشترك وخاصة الكفاح المشترك). "*قراءة في كتاب مشكلة الثقافة لمالك بن نبي"