ضباط ينعون الشهيد محمد صديق إثر تصفيته في الأسر من قِبل مليشيا الدعم السريع    مروحية الرئيس الإيراني تتعرض لحادث.. وعلى متنها عبد اللهيان أيضاً    عقار يؤكد ضرورة قيام امتحانات الشهادتين الابتدائية والمتوسطة في موعدها    سُكتُم بُكتُم    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    إسرائيل والدعم السريع.. أوجه شبه وقواسم مشتركة    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تردي الثقافة العربية..الفواعل والمعرقلات..بقلم : سعدون محسن ضمد
نشر في حريات يوم 19 - 02 - 2012


حوار مع الدكتور شوقي جلال محمد(..1)
حاوره: سعدون محسن ضمد..
سعدون: في الندوات التي تتناول تردي الواقع الثقافي العربي، قلما أجد ربطاً بين هذا التردي وبين ما يرتبط به من خراب في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والتقاليدية غير اني سمعت منك تشخيصا تفاعلت معه كثيراً بهذا الخصوص. كما تفاعلت مع تعريفك للثقافة. كيف يمكن االانطلاق من هذا التعريف للربط بين تردى البني التحتية وتخلف الواقع الثقافي العربي؟
د. شوقي: نعم؛ هناك أكثر من مائة تعريف للثقافة، وغالباً ما تكون هذه التعاريف إجرائية؛ لتوضيح أمر ما وفقاً لرؤية أيديولوجية. أنا أيضاً أعرفها وفقاً لما أريد أن نعرفه عنها، بحكم احتياجنا لها بأنها: أداة تكنولوجيا معنوية يبتكرها الإنسان من خلال الواقع الحياتي له لتشخيص وتفسير ظواهر الحياة وظواهر النفس وظواهر الوجود، لكي يعرف كيف يتعامل معها لتحديد سلوكه إزائها. مثال: إذا كانت ثقافتي تقول لي أن المرض نتيجة شيطان فعلاجه سيكون عبارة عن البخور والدعاء والصلوات وما إلى ذلك، هنا نجد رؤية محددة للثقافة بخصوص ظاهرة وتحديد السلوك المقابل لهذه الظاهرة، وبالتالي تصوغ رؤيتي للعالم والنفس والوجود.
سعدون: في الندوات التي تتناول تردي الواقع الثقافي العربي قلما أجد ربطاً بين هذا التردي وبين ما يرتبط به من خراب في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية (التقاليدية) غير اني د. لاحظت أن تعريفك للثقافة يركز على البنية المفاهيمية فيها، في محاولة لتجاوز النظر للثقافة على أنها مفردات مادية أو حضارية أو ما إلى ذلك. الآن أنت أشرت إلى البنية المفاهيمية التي تتولد بتأثير الواقع الخارجي وتولد الثقافة وتؤثر عليها….
د. شوقي: وعندما أربطها بالواقع فأنا اعتبرها الشق والوجه الثاني والمكمل للحضارة بأنها الإبداع العلمي والتكنولوجي من (الإنسان/ المجتمع) معاً في مواجهة تحديات حياتية تواجهه فيبتكر وسائل مادية، إبداع علمي تكنولوجي قرين إطار فكري وقيمي (أي الثقافة) وبالتالي حياة الإنسان العملية وإبداع الأدوات المادية من أجل مواجهة التحديات قرين إطار فكري (الثقافة) وبالتالي فالوجهين متكاملين معاً في مناخ وظروف حياتية. وإذا كنا نقول بأن الحضارة هي تعبير عن ما يسمى بالهوية، فهي نتيجة أن المجتمع الذي يعمل موجود في بيئة جغرافية تحدد له أسلوب العمل وأسلوب الإنتاج في حياته وأسلوب التعاون أو الصراع…
سعدون: لكن دكتور لماذا فصلت بين الحضارة والثقافة، فأوردت تعريفين لهما؟
د. شوقي: في الحقيقة تعريف الحضارة شامل لتعريف الثقافة.. إنما ميزت الثقافة كي تتضح الرؤية لا سيما أن الثقافة ليست بنية فوقية منعزلة عن الواقع وإنما هي الوجه الآخر للواقع وللفعل الاجتماعي. وأعود لربطها عندما أقول: الحضارة هي الإبداع العلمي التكنولوجي قرين الإطار الفكري، فمعنى هذا أنني أدخلت (الإنسان/ المجتمع) في العملية كعنصر فاعل ليست شيئاً مفروضاً عليه من الخارج ولا شيئاً بعيداً عن الواقع وإنما (الإنسان/ المجتمع) جزء منه.
وعندما نقول أنها إطار فكري ناتج عن العمل والفعل فلا بد أن هناك إطار تاريخي فكما أن الساحة الجغرافية تحدد العمل كذلك الامتداد الزمني (التاريخ) يملي الكثير من المفردات، والإنسان بطبيعته ونتيجة لذاكرته تحدث عملية ترسبات لكل رؤاه وأطره الفكرية الثقافية في تفاعله مع الحياة والواقع وهذه الترسبات تتراكم مع الزمن وتكون جزأً من التراث الثقافي، وهذا يعني أننا في حالة فعل مستمر وإنتاج لحياتنا بشكل مستمر. أي يوجد تجدد فكري وثقافي.
سعدون: أريد الدخول من هذا التعريف إلى حوارنا، المتعلق بتردي الواقع الحضاري العربي. فهذا التعريف وأكثر عملية وأكثر مساساً بتشخيص هذا التردي. عليه أتمنى أن تورد لنا رؤية أولية تقييميه للثقافة العربية.
د. شوقي: أولاً: لا أحد ينكر أن الواقع العربي واقع غير مُجَدِّد منذ قرون. وبالتالي فهو واقع في حالة جمود من حيث الحضارة؛ التي هي الإبداع العلمي التكنولوجي في مواجهة تحديات الواقع. الواقع العربي واجه تحديات جديدة ومستمرة، ولكن لم يوجد إبداع عملي تكنولوجي للمواجهة. إبداع يعكس فعالية الإنسان. أيضاً لا يوجد إطار فكري وقيمي جديد. أي أن الواقع العربي ومن حيث الحضارة بكلأ المعنيين (الثقافي والإبداع العلمي) في حالة جمود ومنذ قرون. والنتيجة أن الواقع الثقافي العربي يجتر نفسه، ويعيش مع من يسميهم السلف. السلف لهم احترامهم وتقديرهم في عصرهم؛ اذ كانوا مبدعين في ذلك الوقت. ولكنهم لم يكونوا مبدعين لنا، لأننا نعيش واقع جديد وحياة جديدة وتحديات جديدة. لا أستطيع أن أقول أن ذكاء الخوارزمي، العالم العربي نافع الآن، الآن الخوارزمي لا يعد عالماً، العالم الآن هو أينشتاين، وإذا حضر ابن رشد الآن لن يكون هو عبقري عصرنا لأنه عبقري عصره.
إن خطأ بعض الدعاة ممن يقدسون القديم دون رؤية عقلانية نقدية لواقع الحياة يرون أسلمه العلوم التي لا أدري ما معناها، هل يريدون أن نعود لرياضيات الخوارزمي أو البيروني. هل المراد أن نلبس الفيزياء والرياضيات عباءة إسلامية. في الواقع هذا رأي هروبي، لأن أسلمه العلوم تعني أن يكون لديك علماء مسلمين وتكون المجتمعات الإسلامية مجتمعات إبداع علمي وتكنولوجي، مجتمعات حضارة العصر الجديد. وبهذا نكون على مستوى حضارة العصر الجديد ونكون مجددين. أما أن نعيش معلبات تاريخ فسنكون عالة على المجتمعات الأخرى. فكل منا يستعمل جهاز الموبايل ولكنه لا يعرف التكنولوجيا التي يعمل من خلالها هذا الجهاز، مما يعني أننا نعيش حالة التبعية. جميع المجتمعات العربية تشتري المصانع جاهزة للعمل ولا تبدعها هي. وهناك حقيقة تقول بأن المصنع الذي يورد لك يكون متخلفا تكنولوجياً.
سعدون: اسمح لي أن أتوقف عند ثلاث مفردات يبدو أنها متحكمة بتردي الواقع الثقافي وتشكل مثلثاً يعمل بهذا الخصوص. فلدينا التسلط الديني والتسلط السياسي ولدينا التسلط الاجتماعي التقاليدي. ويبدو على هذه السلطات أنها تشكل حلقة مفرغة تجعلنا ندور في داخلها باستمرار، فأي هذه المفردات تملي تخلفنا بصورة أكبر؟
د. شوقي: هذه المفردات الثلاثة مردودة إلى سبب أساسي هو تقديس النص، الذي هو نوع من الثقافة التي تعتمد على الاستظهار والحفظ النصي ونتيجة فقدان القدرة على الإبداع والابتكار الذي يأتي نتيجة لجمود الفعل فينا وانصرافنا عنه.
فتكون النتيجة أننا لا نزال نعيش في تحت عباءة مجتمع الرعي أو الزراعة، المجتمعات العربية جميعها من حيث المستوى الحضاري تعيش مستوى الرعي أو الزراعة حضارياً أو ثقافياً أيضاً. وفي مجتمعات الرعي الحاكم هو الراعي، سياسياً هو الراعي وهو مجتمع محافظ وحريص على النص الموروث، وبالتالي تجد تسلط سياسي وتقاليدي وديني، فالثلاثة يجمعهم إطار واحد، يعززه طبيعة المجتمع الرعوي ورجل الدين ليس سوى خادم للسلطة السياسية وهو يدعو للمحافظة حيث يتداخل معها ويتشابك معها في مصالحه الفردية والأنانية الذاتية (كشخص) وبالتالي يكون هو من حَرَقِة البخور لصالح السيد في الدولة…
سعدون: لكنك أشرت الآن إلى التخلف الحضاري، بمعنى مجتمع بدوي أو ريفي وهنا ثمة سؤال جدلي يطرح نفسه، وهو: أي من المفردات الثلاثة تملي الأخريات، بمعنى هل أن مفردة التخلف الحضاري هي التي أملت التخلف الديني الذي يستدعى منّا النكوص باتجاه التاريخ؟ أم أن النص المقدس هو الذي أملى وكرس التخلف الحضاري؟
د. شوقي: كلاهما يغذي بعضه بعضاً ولا تناقض بين الطرفين، المجتمع المتخلف الرعوي يؤكد قدسية النص والمحافظة والتبعية ويؤكد سيادة وقدسية الحاكم أيضاً ويعتبر الحاكم نفسه راعياً للنص والقيم والمحافظ عليه وهكذا يحدث تداخل بين المفردتين. والذي حدث في جميع المجتمعات، أن كلا منها يخرج وبحكم رغبته في مواجهة تحديات مجتمع ثاني أقوى ويحاول أن ينتج آلة جديدة، يبدع ويبتكر آلة جديدة فكر وعلم جديدين وهنا يجري تطويع التراث.
أنا أقول لك صراحة، أن ليس من حق أحد من فقهاء الدين أن يردد عبارة أنت تسأل والإسلام يجيب، ليس من حق أحد بالمرة أن يتحدث باسم الدين، إلا واحد فقط وقد رحل عن الدنيا، أما من عداه فعليه أن يقول بأنني أفهم الإسلام بالشكل التالي وهو قابل للتأويل، وهذا ليس شأن الإسلام فقط، بل المسيحية واليهودية والكونفوشية وهكذا كل النصوص قابلة للتأويل، ومن أجل تحقيق الامتداد الحضاري بالتطور الاجتماعي. وقد ذكرت في كتابي (التراث والتاريخ) مفهوم معين في قصة يقرأها المسلمين كثيراً، وهي قصة أهل الكهف التي تنطوي على حكمة عادة لا نذكرها وهي أن هؤلاء فتية كما تقول القصة آمنوا بربهم وكانوا يدعون لإصلاح المجتمع، ولكن الحاكم المستبد أبعدهم واضطهدهم ما أدى لأن ينزووا في كهفهم، وهذه القصة تذكر بالمواطن الذي يغترب عن مجتمعه بسبب استبداد الحاكم وهكذا ناموا وبحسب القصة ثلاثمائة سنة أو أكثر ولما استيقظوا عادوا لمجتمعهم يؤكدون دعوة الإصلاح وكانت النتيجة أنهم وجدوا أن المجتمع غير المجتمع واللغة غير اللغة، القضايا والمشاكل غير التي يعرفونها وبالتالي فإن ما في نفوسهم من أفكار مختلف عما واقع في المجتمع، ولأنهم أهل حكمة ولم يجدوا لأنفسهم مكاناً في المجتمع قرروا العودة لكهفهم من جديد.
سعدون: إذن الحضارة تتغير وتتجدد…
د. شوقي: الحضارة تتطور ويتطور معها الفكر وتطور المشكلات والغريب أن بعض السلف له رأي جميل يقول: ((النص متناهي والحياة غير متناهية)) الحياة متجددة وبالتالي تفرض مشاكل جديدة. أما النص فمرتبط بسياق معين وظرف معين ينتهي عندهما وبالتالي عليك أنت أن تبدع وأن تبتكر. وفي كتابي نهاية الماركسية، تطرقت لمأساة الماركسية في العالم العربي أنهم بحكم الثقافة الأصولية كانوا أصوليين في ماركسيتهم فكانوا دائماً يعودون إلى لنن وماركس، لكنهم غفلوا عن أن واقع حياتنا تجاوز الإشكاليات التي يتطرق إليها هذان المفكران. عليه طلبت في كتابي من الماركسي العربي أن يكون ماركسا جديدا يبدع ما يتناسب وواقعه، أي أن يستوعب الفكر العلمي بنظرياته وأطروحاته ويفسر واقعه هو بمنهج علمي فيكون هو ماركس.
سعدون: اسمح لي أن أعيد طرح السؤال بصيغة أخرى: في الحضارة الغربية يوجد مقدس، لكنها مع ذلك وخلال حراكها الحضاري استطاعت أن تتجاوزه. أو لا أقل تحيّد هذا المقدس، وتضطره لأن يشغل دوره الذي يليق به فقط. لكن ثقافتنا لم تستطع أن تفعل ذلك، ففي مرحلة التنوير الأولى فشلت، والآن توجد حراكات تنويرية أخذت تفشل أمام ضربات الأصولية التكفيرية. فهل تعتقد أن المشكلة في نصنا المقدس، من جهة أنه لا يتيح لنا الانطلاق، أم في عمقنا الحضاري؟
د. شوقي: لو سمحت لي، طبعاً يوجد فارق بالدرجة بين النصين، وفي تقديري أن هناك في العالم ثلاث ثقافات تقريباً. ثقافة منها تؤكد على التناغم في الوجود وترفض ما ترى أنه يخرج عن هذا التناغم لأنها تعتقد بأنه يحدث شذوذاً وبالتالي أزمة، فلا بد أن تعيد الانسجام مرة أخرى ليعود التوازن وهذه الثقافة موجودة في شرق آسيا. ثقافة التناغم تتحدث عن ثلاث مستويات من الملكوت: ملكوت السماء وملكوت الإنسان وملكوت الأرض وبالتالي طبعا الإنسان وكأنه ملكوت مستقل له كيانه وله وجوده ليس ضائعا أو مستوعباً في ملكوت آخر، ومن هنا فالإنسان له وجوده المعترف به ليس وجودا عابرا معقدا زائلاً. وإنما هو جزء أساسي وجوهري من الكيان الكلي.
الثقافة الأخرى تسمح بالحوار المتبادل بين الإنسان والوجود، وهي ثقافة الغرب. أي عندهم ثقافة الحوار بين الإنسان والأرباب. وفي التاريخ القديم لدى الإغريق وغيره من حق الإنسان أن يحاور ربه بالتالي هنا جزء من الإرادة. وفي واقع الأمر أن بعض الإغريق كان يعيش على البحر، والبحر يحتاج منك أن تكون واعيا لقوانينه وقواعده لكي تتعامل معه. يأتي ذلك مع الإيمان بالغيب.
الثقافة الثالثة يستوعبها الغيب كل طاقتها ومخاضها منصرف إلى الغيب بينما الوجود الدنيوي يكاد يكون في حالة إلغاء تام أو هو وجود عابر ومرصود ومنذور بأكمله لصالح الغيب. ولذلك نجد أن أزمة الناس عندنا في عصور التخلف هو أنهم يريدون دخول الجنة ويوظفون كل حياتهم ويسخرون كل إمكانات المجتمع من اجل تحقيق هذه الغاية. ويقتل الناس بعضهم بعضاً بسبب دخول الجنة. كل ذلك يأتي بسبب استيعاب الغيب لكل شيء، بحيث يشل أرادة الإنسان ويمحوها تماما.
لكن هناك أيضا فرصة للنجاة. تأتي من خلال فصل عقلنا الديني عن الدنيوي. ذلك أن أزمتنا تنشأ من تطابق العقلين عندنا، لا بل إننا نعطي الهيمنة الكاملة للنص الديني على الدنيوي، وفقا للعقلية الدينية التي مضى عليها قرون. والنتيجة أننا نهدم الجانب الدنيوي. طبعاً المتدينون يقولون أن هذا مع العقل ومن الإسلام. وأنا أرى أن العَلْمانية هي أعمال العقل العلمي بشئون الدنيا وليس في هذا ابتعاد عن الإسلام على عكس ما يقولون، ولو أن محمد كان موجودا لكان أول عَلْماني. وهناك شواهد من السنة والتاريخ تؤيد هذا الرأي، مثلاً ورد في السيرة انه (ص) سئل عن رأيه في بعض المشاكل التي تتعلق بالحياة الدنيا فكان جوابه أن قال: ((أنتم اعلم بشؤون دنياكم)). وهذه علمانية. فهو بهذا القول قد رد أمور الدنيا إلى ذوي الاختصاص؛ أي إلى من هم أعلم بشؤون الدنيا، وهم العلماء. وبالتالي نحن نخطئ بحق أنفسنا ونسد الطريق أمام تطورنا، بهذه العقلية الخارجة عن الدين باسم الدين .
الغرب نفسه كان عنده مقدس ولكن تغيراً حصل بصورة بطيئة جعل هؤلاء الغرب يدرك أن حياته أصبحت رهن تقدم الدين، وهذا الأمر جعل نفس الدين يدعوا إلى الحفاظ على الحياة. وربما تستغرب أذا قلت لك أن من أهم أسباب التغيير وأسباب التأويل الجديد للمسيحية والذي جعلها تعطي فرصة كافية للإنسان ليقرءا ويفسر الدين مستقلا عن رجال الكنيسة، أن ايطاليا خلال عصر النهضة عانت من مشكلة ملخصها أن المسيحية تحرم التعاملات الربوية ما جعل المواطنين يحجمون عن التعاملات المصرفية. وهذا ما دفع باليهود لأن يغتنموا الفرصة ويستثمرون ويكنزون ويحكمون وبالتالي يهيمنون. وهنا أحس المجتمع بالخطر خاصة وأن هذا المجتمع كان قد أخذ بأسباب التطور العلمي، والتحول التدريجي باتجاه التطور في علاقات الإنتاج التي حولت المجتمع من زراعي إلى صناعي، ومن هنا أخذ المفكرون أمثال (كانت، بيكون) يتحدثون عن التغيير والاستنارة وضرورة التأويل. وهكذا انطلقت حركة التأويل والتنوير. وعلى الرغم من أن البروتستانتية جاءت على يد أناس هم في طبيعتهم أصوليين ولكن حرصهم على العمل وتأثرهم في هذا المجال بابن رشد، دفع بهم نحو إباحة العمل المصرفي. وهذا الموضوع أخذ يشغل المسلمين ألان أيضا.
سعدون: دكتور اسمح لي أن أتوقف عند حوار الإنسان مع الرب الذي أشرت له قبل قليل واعتبرته موجوداً في الثقافة الأغريقية ومبرراً مساعداً ربما على التنوير الغربي،
هذا الحوار نجده موجود في الحضارة العربية، على الأقل في تعدد الإله قبل الإسلام مثلا، أو في الحضارة السومرية، إذ كان هناك صراع بين الإنسان والرب ينتصر فيه في كثير من الأحيان الإنسان.
أذا لدينا حوار بين الإنسان في موروثنا الثقافي. ومن جهة أخرى لدينا مفكرين تنويريين قالوا بضرورة الانتقال من الميتافيزيقي إلى التجريبي ومع ذلك لم ينجح التنوير عندنا.. لماذا؟.
د. شوقي: ما تقوله عين الصواب، لكنني أتكلم عن الحاجة إلى التأويل لان الدين يسمح بتأويله، علي ابن أبي طالب يقول القران حمال أوجه، والأوجه هذه تتغير، ليس بشكل انتهازي، ولكن وفقا لمقتضيات تطور المجتمع. في مصر مثلا التيار السني يريد أن يفرض رؤية معينه وهو يمنع إن يكون هناك تيار شيعي أو بهائي. مع أنهم طيف إسلامي، ولكن يحاول التيار أن يفرض رؤيته المحددة. الشيعة من جهتهم أيضا يحاولون فرض رؤيتهم على السنة وغيرهم. أذا في الإسلام توجد تعددية لكن في واقع السلوك الحياتي للمسلمين لا يوجد قبول للأخر ولا يوجد تسامح. ولذلك أنا أقول أن ظروف التخلف تحاول أن تكون ظروف تسلط وهيمنه من اجل ضمان بقاء السلطان.
التعددية موجودة في المسيحية والإسلام واليهودية فالحيات تنبض بتناقضاتها باستمرار ولكن العقليات الضيقة القبائلية والعشائرية تحاول أن تفرض الهيمنتة من خلال الثقافة. وهذا الأسلوب استخدمته معظم القوى الغازية وعلى مر التاريخ، حيث تسعى لمحو الذاكرة الثقافية للشعوب الواقعة تحت الاحتلال من أجل الهيمنة عليهم. المسلمون فعلوا هذا والأوربيين أيضاً.
سعدون: ما دام الدين هو العامل الأبرز في التأثير على الواقع الثقافي العربي فدعني دكتور أشير للمبرر الذي يستخدمه معظم الرافضين للتنوير، فهم يقولون بأن سلسلة التغيرات المطلوب إجرائها على الفكر الإسلامي لن تنتهي فكلما قدموا مستوى من مستويات التنوير طالبهم دعاة التنوير بتغييرات من جوانب أخرى. في الاجتهاد الشيعي توجد منطقة فراغ، تستخدم لتلبية حاجات الحضارة للتغيير، لكن مع ذلك ما يزال الفكر الشيعي متهماً بالأصولية، في إيران ألان الحدود معطلة والقانون يكاد أن يكون وضعياً بالكامل ومع ذلك ما تزال الشريعة الإسلامية مطالبة بتنازلات، ألا يعني ذلك بأن المشكلة صميمية في الدين وأن هناك تقاطع بينه وبين الأفكار الحضارية الحديثة وبالتالي تكون قضية التنوير بالنسبة للإسلاميين عبارة عن خدعة يراد من ورائها جر الإسلام لسلسلة تغييرات ستطال جميع ثوابته؟
د. شوقي: الدين يهيمن والتغير في الرؤيا الثقافية يأخذ وقتا أطول على مستوى الفكر. بمعنى أن التغير الذي يطال النواحي المادية في المجتمع نفسه يكون أسرع من التطور في النواحي الفكرية ومن ثم سيتعرض المجتمع لحالة من التناقض فهو يتحرك إلى الأمام لكن فكره يعاني من التخلف ويثير التناقضات ويسعى للمواجهة من أجل الحفاض على الأصول.
سعدون: يتقدم تكنولوجيا ويتخلف فكريا.
د. شوقي: نعم يدخل في توتر فهو يحاول أن يواكب ويبحث عن وسائل المواكبة، لكنه يريد الحفاظ على الأصل ثم يتغلب هذا الأصل ويعرقل ويؤخر عملية التغيير. كان العالم في القرن التاسع عشر متأثر بالرؤية الماركسية التي شكَّلت أطارا للتفكير ومرجعا موثوقا به، وكان الفكر الرأسمالي أيضا مرجعا موثَّقا. كان للرأسمالية فكرها وللماركسية فكرها، ولا زال طبعاً. ولكن ما حدث في منتصف القرن العشرين أن العالم تغيرا تماما من حيث طبيعة التكوين الجغرافي ومن حيث تحرر الشعوب من الاستعمار وتطور أيضاً المستوى التكنولوجي الأمر الذي أنتج تغيراً بالنسبة لطبيعة الطبقات التي كان يتكلم عنها ماركس أو غيره وبدأت رؤى الماركسية والكنزية وغيرها تتحول لنوع من التقليد والتراث وبالتالي صار من الواجب تجاوزها إلى فكر جديد، وفعلاً حاول الغرب آن يقدم ما يسمى بالطريق التالي وتوافق واشنطن وما إلى ذلك، لكن القوى الشيوعية حاولت الوقوف بوجه مختلف أنواع التغيير، في محاولات للحفاظ على الواقع كما هو. ولولا أن الواقع الحياتي يتطلب التغيير لارتباط مصالح المجتمع بعملية التغير لبقيت الأفكار الماركسية تعرقل التغيير الاجتماعي. من جهة أخرى نجد أن الغرب الرأسمالي وقع بنفس المطب، فقد حاول التعامل مع جميع المجتمعات وفق رؤية رأسمالية ضيقة، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن مجتمعات الصين والهند ومصر وإفريقيا لها مزاج اجتماعي خاص لا ينسجم مع الأفكار الرأسمالية، فسموها الطريق غير الرأسمالي، وكلمة طريق تعني طريق جديد للمعرفة، وبالتالي لا يدخل ضمن الإطار التقليدي ثم بدا كل هذا يتغير ويعيش العالم الآن في حالة فراغ فكري وخصوصا بعد دخول عصر المعلوماتية وما بعد المعلوماتية والمطلوب من المجتمعات الآن أن تضع صيغة نظرية تفسر بها حركة الواقع الجديد وقوانين هذه الحركة حتى يمكن لهذه المجتمعات أن تنسجم مع الواقع الجديد.
هذه الظاهرة حدثت مع الدين ولكن نظرا لأن إيقاع حياتنا في البلدان العربية بطيء جدا في التحول تحت ظل هيمنة النص الديني بقي التوتر الذي تحتاجه عملية التغيير غير كاف. لكن مع ذلك تعمل المصالح الاجتماعية المرتبطة بالتغيير على تحريك هذا السكون أو الخمول. في إسرائيل حدث التحول الحضاري بشكل أسرع، إذ تم تحجيم القوى الأصولية إلى حد بعيد جداً.
سعدون: لكن دكتور الأصولي بالكاد يستطيع الحراك في الكثير من المجتمعات العربية، فهو مقموع إلى حد بعيد لكنه مع ذلك يستطيع التأثير،كيف تفسر تأثيره؟
د. شوقي: المجتمع العربي مجتمع خامل وتنتشر فيه ثقافة الاتكال على الله، الله هو المسؤول عن حل المشاكل الاجتماعية وليس الإنسان، ثقافة الاعتماد على الله ثقافة مميتة للفعّاليات التغييرية. وفي مثل هذه البيئة يستطيع الفكر الأصولي أن ينجح ولو بجهد قليل، خاصّة عندما تكون النخبة عاطلة عن العمل ولا تقدم حلولاً للمشكلات الاجتماعية وغيرها من المشكلات، المشكلة تكمن بإننا عاطلون وحتى ألان نحن تابعون فكريا وعلميا وتكنولوجيا للغرب، نستورد فقط، ولا نبذل أي جهد، عكس التجربة اليابانية (مثلاً) التي أخذت العلم والتكنولوجيا من الغرب ولكنها طورتهما احضنت العلم أصبحت هي الحاضنة وبالتالي استطاعت أن تعيش في قدر من الاستقرار في فكرها وفي أنتاجها وهذا ما تسعى له الصين وهذا ما تسعى له ماليزيا. لكن ماليزيا لم تفعل للأسف لأنها (طبعا) في ظل ظروف مشابهة لظروف المجتمع العربي من هيمنة النص الديني بشكل كامل بحيث أصبح الإنسان يكاد أن يكون عاجزا عن تقبل التغيير.
سعدون: إذا في ماليزيا المعرقل هو النص الديني.
د. شوقي: في ماليزيا مهاتير محمد له عبارة مهمة جدا وهو يقول: (نعم نحن مسلمون ولكن ثقافتنا بوذية) وأنا زرت ماليزيا وزرت الصين عدت مرات وكتبت عنهم، هناك قضية مهمة جدا نحتاج أن ندركها لنفرق بين تجربتنا والتجربة في شرق آسيا، ففي منطقتنا تجد أن الصراع الديني هو الغالب وهو الحاكم والمهيمن والتمييز الديني والهوية الدينية هي الحاكمة للعلاقة بين فرد وفرد وبين الفرد والمجتمع وهناك أيضاً الصراع بين السلطة والمؤسسة الدينية وكل منهما يدعي الرعاية للنص الديني. في شرق آسيا لا يوجد مثل هذا الصراع على الإطلاق، وكما قلت لك ملكوت الإنسان مستقل عن ملكوت الله أنا ممكن أكون مسلم وأنت بوذي أذهب معك إلى معبدك وأنت تذهب معي إلى معبدي. السماء واحدة فلا نستنفذ ولا نبدد طاقتنا في صراع حول الدين، ممكن نختلف حول تأويل ألكنفوشية وحدث ذلك ولكن أيضا مؤمنون أننا من خلال الصراع نصل دائما إلى الرأي الصحيح وبالتالي لا يهتمون بينما نحن نبد كل طاقتنا من اجل الصراع حول النص الديني، العقل الديني مهيمن والعقل الدنيوي مغتال أو مقعد.
سعدون: نعود إلى مثلث (الدين السياسة المجتمع). وللدكتور علي الوردي إطلالة في هذا الموضوع وبالتحديد فيما يخص موضوع (صراع البداوة و الحضارة) والذي اعتبر من خلاله أن الصحراء والبداوة مصدر دائم للأفكار الأصولية يغذي الوطن العربي بالتطرف ومع أنه لم يشر للأصولية بدقة، لكن أفكاره واضحة بهذا الخصوص. عليه وإذا كانت الصحراء منتج مستمر للتطرف، ألا يعني هذا بأن البيئة هي المسؤول الأول عن التطرف وليس الدين؟
د. شوقي: ليس من الصواب أن نفسر الأمور وفقا لسبب واحد، هناك دائما شبكة علاقات وأسباب وتعاملات؛ بالنسبة للسعودية أو شبه الجزيرة العربية، فقبل خمسين سنة لم تكن مؤثرة على الفكر في مصر (مثلاً) إلا من واجه قدسية، باعتبارها مهبطاً الدين ومكان مكة، الذي يُقْبل عليه المصريون. لم يكن لهذه المنطقة تأثير على المسار السياسي والحضاري أو حتى السلوكي. لكن مع ظهور النفط وتعقد أزمات المنطقة، تغيرت المعادلة. هذا من جانب، ومن جانب آخر لا بد أن نلاحظ بأن السلطة السياسية الموجودة في السعودية حريصة على أن تؤكد وجودها وأن تستفيد من النص الديني من جهة ومن احتضانها للبيت العتيق من جهة أخرى لتكريس نوع من الهيمنة على المنطقة العربية.
الشيخ الشعراوي في واقع الأمر تربية سعودية وقد صدرته السعودية إلى مصر، لكي يفرض آراءه وحين توفي الشعراوي صدرت النجار في محاولة للهيمنة. كما هو الحال بالنسبة لاستخدامها للإعلام. صحيفة الشرق الأوسط مثلاً تنفق عليها السعودية أموال طائلة بغرض عدم نشر أي خبر يمسها. صراعها مع إيران لم يكن صراع حضاري بل ديني (صراع طائفي) وحين جاء الخميني غيرت السعودية لقب ملكها إلى خادم الحرمين. بمعنى أنها وجهت رسالة لإيران تقول لها بأن السعودية هي المرجع للإسلام في العالم وأنها فاتيكان المسلمين. بالنتيجة هناك صراع وأموال طائلة تنفق من قبل السعودية وإيران لتغليب هذا المذهب أو ذاك حتى بين الأميركان السود، ويضن خادم الحرمين بأن أفعاله كفيلة بإدخاله الجنة، وهذه قضية جوهرية؛ أن يدخل الملك الجنة على الرغم من تفريطه بكل شيء وحفاظه فقط على امتيازاته الملكية وليذهب العالم كله إلى الجحيم. النفط أعطى للسعودية (للصحراء) قوة إضافية لكي تمارس السياسة بشكل جديد وتفرض سيطرتها وتؤكد التخلف في بلدان أخرى مثل مصر فأداء السعودية سلبي مع الشعب المصري. وهي مسئولة لحد كبير ومعها النظام المصري الحاكم؛ لانه لا يملك رؤيا استراتيجية ولا يحرص إلا على بقائه في السلطة.
سعدون: دكتور مع أنك أكدت على السياسة ولكني أريد العودة لتأثير البيئة مستشهداً بمصر والعراق، ففي الأولى كانت هناك حضارة تعبد الإنسان وهذا معطى مهم على صعيد الجذور الثقافية التي تعطي الإنسان انفكاكه من أسر السماء. وفي العراق كانت هناك حضارة تصارع الأرباب وتنتصر عليهم. كما في ملحمة كلكامش. والسؤال هو: لماذا استهلك النص الديني هاتين الحضارتين استهلاكا تاما بينما البيئة الصحراوية التي (ربما) جاء النص القرآني منسجماً مع بعض مخرجاتها استطاعت أن تستهلك الواقع العربي والنص الديني، في سياق ما تريد؟
د. شوقي: بداية أريد أن أقول أن العقيدة الدينية المصرية القديمة كانت موجة أخروياً أيضاً. الإنسان يُضحى به ويذل باسم الدين باسم الرب باسم أتون، ولكن في ضل المستوى الحضاري آنذاك يعتبر هذا الموضوع معقول لمجتمع قديم. ولكن نتيجة تخلف مصر، والحقيقة أن الإنسان المصري تعرض للاعتداء منذ أكثر من خمسمائة عام قبل الميلاد وتعرض لانتهاك كامل وتهديم كامل لثقافته وإنسانيته، ونتذكر في هذا السياق الفرس، حين جاءوا إلى مصر وهذا صراع سياسي واقتصادي وهدموا كثير من المعابد وأخذوا العديد من المصريين البنائين إلى بلاد فارس، وأذلوا المصريين. تم جاء الرومان ثم جاء العرب ثم جاء الأتراك، كل هؤلاء استبدوا ونهبوا خيراتها إلى بلادهم الأصلية. والأخطر من ذلك هو إصدار الرومان لقرار بتحريم وتجريم العبادات المصرية وهدم المعابد، وبالتالي عاش الإنسان المصري بدون مرجعية ثقافية وهذه تجربة خطيرة، ولك أن تتخيل خطورة الموضوع، في أن تتصور بأن يصدر الآن قرار بهدم الأزهر والمساجد والكنائس البترياركيه، كيف يمكن للشعب أن يعيش، المعابد هي مؤسسات الانتاج الثقافي والفكري آنذاك. القرار الروماني في تقديري كان له أثر كبير في أضعاف الإنسان المصري، وقد ضل هذا الإنسان خاضعا للحكام الأجنبيين والمستبدين إلى أن جائت سنة اثنان وخمسين والمشكلة أن الحكم فيها بقي استبدادياً. ولا يزال يعيش هذا الإنسان في ضل حكم استبدادي حتى ألان. بالتالي فهو مستبعد وممنوع من أن يكون طرفا مشاركا ايجابيا في صياغة الحياة. وحين ظهر النفط وبدأ يهاجر لخارج وطنه لم يعد هذا الوطن يعنيه وإنما يعنيه كسب العيش. وأنا أعتقد بأن السبب في ذلك هو أن الحركة السياسية ألان في مصر مقتولة موءودة. ألان يكفي أننا نرى كيف أن الحكام يضربون القضاة ويطاردون الأحزاب السياسية. ممنوع لأي إنسان أن يكون له رأي وأن يشارك، تخيل أن مهمة وزارة الداخلية هي حماية السلطة من الناس وتفكيك أوصال المجتمع المصري بحيث أنا في رأيي أن المجتمع المصري تحول إلى تجمع سكني وليس مجتمع. وهذا تفكيك للأواصر. بينما في فترة النهضة أيام عرابي والطهطاوي أوائل القرن العشرين أخذت الأواصر ترتبط والتاريخ الحضاري القديم يأتي ثماره بسرعة ويتحول الناس لقوى فاعلة. ومصر لها دور مؤسس ومؤثر بالنسبة للمنطقة العربية كلها ولكن حين تكون في هذا الوضع الضعيف، وهذا لصالح البداوة السعودية لأن السعودية لا تزال بداوة لحد ألان ولا تزال حاكمه والسعودية تضمن استمرار هيمنتها من خلال أضعاف مصر وإضعاف التطور الفكري والسياسي. وحين قامت الجمهورية في مصر بجهود عبد الناصر والذي كان صاحب مشروع متناقض فهو مستبد ويحمل مشروع قومي وهذا التناقض سبب النكسة وقفت السعودية ضد وجود مشروع قومي وضد عبد الناصر حفاظا على مركزيتها، ومن هنا أنا أعتبر بأن البداوة لا تزال قائمة لم تتغير، التغير حصل باستبدال الخيام بالعمارات الشاهقة. التنكولوجيا والحضارة لا بد أن تكون نبتا وإنتاجا محليين فلا تعد تحولا حضاريا ليست حيازة وإنما أبداع وإنتاج.
سعدون: يبدو لي أن الحضارة الغربية تعيد إنتاج نفسها، أو أن تجربتها تتكرر، فالمذهب التجريبي أنتج التنوير والثورة الصناعية، ثم جاء الاستعمار. ألان حصلت ثورة معلوماتية وبعدها العولمة وجاء على أثرهما الاستعمار الجديد. هل تعتقد معي أن هناك عملية إعادة إنتاج للحضارة الغربية وأين نحن من هذه العملية؟
د. شوقي: أولا الثورة الصناعية جاءت ثمرة قرون سابقة، وكانت هناك أيضاً بؤر للنشاط العلمي في نواحي مختلفة وبدأت هذه البؤر تترابط وتعطي أمل بتغير حثيث في عملية الإنتاج. كانت الصين في القرن الخامس عشر على وشك أن تنتقل إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية إلى عصر البدايات الأولى للثورة الصناعية وكانت مصر في القرن الخامس عشر أيضا على أبواب نفس التحول لكن مصر مُنِعت وقوطع مشروع النهوض فيها فمصر كانت تخضع للمماليك ألجراكسة. وسبب هذا التحول في عصر الجراكسة، أن جميع القوى التي غزت مصر كانت لها دول تُنزح إليها الخيرات من مصر، الرومان هرَّبوا الخيرات لروما الفرس هربوها لبلاد فارس، العرب لشبه الجزيرة العربية، الجميع كانوا ينهبون الأتراك أيضاً. فقط المماليك لم يكن لهم غير مصر. فقد كانوا مخطوفين وتربوا في مصر. ولذلك فقد كنزوا ما سرقوه من مصر في مصر نفسها. الأمر الذي أنتج نوعاً من أنواع الرساميل التي تنفع في الاستثمار. فكان لابد من استثمار هذا الفائض على مستوى العالم فكان هناك استعداد لاستثمار الفائض. ولكن جاء ألأتراك لمصر وقضوا على بوادر التحول. طبعاً مصر ليست وحدها في هذا المضمار، الهند أيضاً تعرضت لعملية عرقلة لمشروع التحول فيها من قبل بريطانيا. عموماً التطور في أوربا حصل على المدى الطويل. وترافق مع التطور الصناعي تطور حضاري وعلمي؛ فإيقاع التطور لدى الإنسان يتسارع بشكل كبير بحيث أن ما ينتجه الآن في يوم أو في سنة يعادل ما كان ينتجه سابقاً بقرون. التطور العلمي في جميع السياقات يتقدم بسرعة جدا وينعكس على المجتمع.
المشكلة أن المسافة الحضارية التي تفصل بيننا وبين الغرب أخذت تزداد في القرن التاسع ربما كان يفصل بيننا وبينهم مائة سنة فقط. في القرن العشرين مائتين. ألان المسافة أطول بكثير. مستوى التعليم في الوطن العربي متدني جدا ويكاد أن يكون بمستوى التعليم في موزنبيق. إذن كيف نستطيع أن نواكب التطور؟ طبعاً هناك تجارب يمكن أن نتعلم منها، تجربة اليابان، الصين، وغيرهما.
مصر القرن العشرين كانت أفضل بكثير وقربها من الغرب كان أكثر من الآن. لقد صنعنا في مصر سيارة كانت تؤهلنا للتقدم، اليابان جاءت إلى مصر أيام محمد علي لكي تدرس كيف تكون النهضة. والسؤال: لماذا أهدر هذا كله؟
سعدون: حقاً كيف أهدر هذا كله؟
د. شوقي: سبب الهدر هو اعتداء العقل الديني على العقل الدنيوي، المعادلة صعبة. ولا يمكن الخلاص من نتائجها إلا بوضع الإنسان رهن التطور الحضاري. أما أن تيسر له الانجازات الحضارية والتكنولوجية، ليمتلكها فقط دون التفكير فهذا تكريس للأزمة.
الهوامش:
1. شوقي جلال محمد دكتوراه في الفلسفة، من جمهورية مصر، مشتغل بالانتادج المعرفي فبالإضافة لترجمته أكثر من ستين كتاباً إلى اللغة العربية، فقد كتب عشرة كتب منها:
العقل الأمريكي يفكر: بانوراما نقدية تطرح تطور الفكر الأمريكي والمجتمع الأمريكي على مدى مائتان وخمسين سنة. صدر سنة 1990وهو يعرض الولايات الأمريكية المتحدة حتى سنة ألف وتسعمائة وستين من النشأة الهجرة المهاجرين.
1. ثقافتنا والأبدع.
2. الحضارة المصرية صراع الأسطورة والتاريخ.
3. على طريق (تومس كونوا).
4. التراث والتاريخ.
5. الفكر العربي وسيسلوجيا الفشل.
6. المجتمع المدني وثقافة الأصلح.
7. شرق وغرب تأملات وقضايا فكرية، (تحت الطبع).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.