متميزون نحن جداً في تدبير الأمور مع الظروف الاقتصادية الضاغطة، لنا قدرة مبدعة جداً جداً في انتزاع اللحظات السعيدة، وأجمل ما في هذه البلد أن السعادة شعور يتقاسمه الأغنياء والفقراء على حد السواء، والضحكة قاسم مشترك بين الجميع رغم اختلاف الظروف والأوضاع. سائق ركشة قبل يومين في بحري المؤسسة يكتب بخط جميل على خلفية ركشتة (إذا الدنيا قفلت عليك شديد غيّر رقم التلفون)، وكل من كان بالشارع التفت لهذه الجملة وأخذ في تحليلها من وجهة نظر (وجعته الشخصية)، ولكن كانت الضحكة المجلجلة هي العنوان بين الجميع، وسأظل أكرر أن ما يكتب في خلفيات الركشات والمركبات العامة، يعبر عن قدرة إبداعية خلابة وتعبير عن ظواهر اجتماعية جديرة بالدراسة. لاحظت سائق الركشة وأوقفته، وظن أني أطلبه لمشوار، فقلت له حتى لا يصاب بالصدمة: "معليش يا أبو الشباب، عايزك بس في موضوع دقائق بس ما عايز مشوار"، فقال لي: (أبشر)، فقلت له: (ياخ إنت قاصد شنو بكلامك الكاتبو في الركشة دا؟)، ضحك حتى (بانت نواجذه)، فأوقف محرك (الركشة) وانعدل في جلسته وقال لي: (شوف الموضوع دا بسيط جداً إنت إذا بتحاول تتصل برقم وما جمع معاك، بتراجعه كم مرة، وبتقول أنا يمكن اتصلت غلط كلامي صاح ولا ما صاح)، فرديت عليه: (أيوة)، فقال لي: (عليك نور.. دي الدنيا ذاتها إذا حاولت تتعامل معاها وعاكستك غيّر طريقتك، يمكن الأمور تستعدل معاك)، قلت له: (معليش وضح لي أكتر)، فقال لي: (ياخ أنا اتخرجت من الجامعة لي 8 سنوات، وما خليت معاينة ما خشيت وما خليت وظيفة ما قدمت ليها وقاعد بدون شغل، فكرت أغير إستراتيجتي مع الحياة وربما ربنا يفتحها، فعملت في هذه الركشة وكتبت عليها هذه العبارة، فهي تعبر عن حالتي وحال الكثيرين)، فضحكت وقلت له: (أها بعد غيرت الرقم واشتغلت في الركشة الحصل شنو؟ الدنيا فتحت معاك؟)، فرد على بضحكة مجلجلة: (الحمد لله يا حبيب أخير من الوظيفة الساكيها لي ثماني سنوات، الحال مستور ولله الحمد)، فودعته واعتذرت له عن أخذ زمنه من العمل فقال لي: (لا ياخ عوجة مافي دا الرزق مقسوم مافي للشفقة لزوم)، فضحكت جداً (لأن عبارته هذه التي قالها لي أخيراً تتزين بها إحدى المركبات العامة). حكاية هذا الشاب المكافح وعبارته الذهبية التي زين بها خلفية الركشة تكشف عن شفرات سودانية خالصة تعبر عن الحال، أحيانا بسخرية لاذعة وأحيانا بحروف مؤلمة، وستظل خلفيات الركشات والمركبات العامة، عالما يحتاج إلى المزيد من الاستكشاف، فرب عبارة واحدة قد تغير مجري حياة الكثيرين، ونصيحة لك عزيزي القارئ، كلما أحسست بالملل والزهج تابع ما يكتب في خلفيات السيارات والركشات، وستجد ما يزيل عنك هذه الحالة، وربما تجد حلاً لأمرٍ يشغل تفكيرك، وتحية خاصة لسائقي الركشات من الشباب الذين يكابدون لقمة العيش الحلال، بعد أن ضاقت بهم وظائف الدولة بما رحبت وهم يحملون شهاداتهم في انتظار وظيفة أصبحت تحتاج إلى.. (تغيير رقم التلفون