بقلم: سعيد عباس حكمت محمد يس... فاحت كنسمة زهر ربيعية تنثر عبقها وأريجها بتفرد وروعة فصاغت كلماتها وأطلقت عبراتها وأشجانها عبر حس أنثوي رقيق يستأذن القيم والمبادئ المقيدة ولكن دون أن يكسرها، ويتجاوزها دون أن يحقرها فأرسلت حس حواء الشاعري رقيقًا من غير ضعف قويًا من غير عنف فانسابت على جزالة الأغنية السودانية كخيوط الفجر المتمردة على دجنة الليل البهيم الحالك ترسم لوحة الصبح الجميل الباهي ليتسابق على شعرها ونظمها كبار الفنانين وصغارهم لتكتب اسمها بأحرف من ألق ونور إنها نجمتنا لهذا اليوم وهي المتميزة دومًا وأبدًا الشاعرة حكمت محمد يس. (1) كانت صرخة ميلادها بأم درمان في عام 1952م بحي الموردة وقرأت مراحلها الأولية والثانوية بأمدرمان ثم واصلت تعليمها الجامعي بالمملكة العربية السعودية التي أقامت فيها ردحًا من الزمان فكتبت الشعر منذ نعومة أظافرها وهي في الثانية عشرة من عمرها ولها قصائد متجاوزة لسنها تمامًا فقد كتبت عددًا من الأشعار وهي في الثالثة عشرة من عمرها بثقافة حسية عالية ونضوج أدبي تام قبل أن ينضج عودها ويتقدم عمرها ولمّا قدمت إنتاجها الأدبي المخزن لسنوات طوال وجده الفنانون والملحنون كأنها وضعت نوتته الموسيقية واللحنية قبل القافية والنظم فغنى لها كبار الفنانين أمثال شرحبيل أحمد وكمال ترباس أغنيات كبيرة وهي لاتزال في بواكير صباها في ذاك الوقت. (2) غني لحكمت يس شرحبيل (أريتو ظلم الدنيا يبقي ليهوحدود) التي وجدت قبولاً واستحسانًا منقطعي النظير فأصبحت أعمال حكمت تنافس نفسها، خصوصًا بعد أن قدمت لترباس رائعتها (صدقني مابقدر أعيد قصة غرام بالشوق بدت رحلة عذاب دابة انتهت) وذلك في صدر سبعينيات القرن الماضي فكانت الأغنية أغنية الموسم التي تسيدت على كل الأغاني المطروحة بالساحة. (3) بعد ذلك قدمت حكمت الأغنية التي أحدثت رواجًا وصدى كبيرًا في الأوساط الفنية وهي أغنية (الجرح جرحي براي منو البداوي معاي) التي أداها بمستوى مدهش الفنان عبد الوهاب الصادق وكادت تلك الأغنية أن تسبب إشكالية كبرى في برنامج ما يطلبه المستمعون بالإذاعة السودانية وذلك لكثرة طلبها من مستمعين كثر في برنامج واحد ولأن النجاح لم يكن وليد صدفة عند حكمت فقد ظهرت لها أغنية تكاد أن تنافس معظم الأغنيات التي سبقت وهي أغنية (البيني بينك حيرني وشقاني ولو تصدق إني ليك ده بأكد ليك حناني) ولأُغنية البيني بينك قصة أخلاقية رائعة لحكمت يسن فقد كتبت تلك الأغنية للراحل الفاتح قميحة ولكن عندما سمعها زيدان وأحسها طلبها منه فاعطاه الفاتح لها بكل أريحية وكانت حكمت خارج السودان وعندما وصلت الخرطوم ذهب إليها أصحاب الاستديو الذي سجل الأغنية ومعهم مبلغاً مالياً ضخماً نظير التوقيع لتسجيل الأغنية ولكن رغم أن زيدان فنان كبير إلا أن مبادئ حكمت كانت أيضًا كبيرة، فرفضت المبلغ وقالت هذه الأغنية أنا أعطيتها للفاتح قميحة وحتى أوقع العقد ينبغي أن اتصل على الفاتح وأعرف رأيه هذا من ناحية أخلاقية وبالفعل اتصلت فورًا على الفاتح الذي قال لها طلب مني زيدان تلك الأغنية التي قال إنها لامست فيه أوتاراً حساسة فأعطيتها له ففي تلك اللحظة قالت حكمت إذًا مبروك، كما كتبت لسمية حسن (يمة خلتني الظروف أبقي فنانة حروف). (4) لحكمت بديهة شاعرية متقدة وحضور حسي عالٍ يجعلها تتغمس إحساس أحد المكلومين أو المجروحين فتعبر عنه، فقد جاءت إليها صديقتها في قمة الحزن بسبب أن زوجها أرسل لها ورقة طلاقها في ظرف فكتبت حكمت في الحال أغنية (ورقة طلاق) التي غنتها سمية حسن وتقول أحد أبياتها (ورقة صغيرة مابتسوي- تحطم بيها أغلى هوى- مش كان حقو تتريث عشان الجمعنا سوى) إلى أن تقول:(ان الماقنعت فوقك شوف تجيني الورقة في مظروف) ولكن عندما لم يستجب الزوج هجته قائلة: (لا دمعة بتحنن قليبك ولا دمعة الماضي بتجيبك؟) كما كتبت حمكت أشعار وأعمال لا يمكن حصرها في تلك المساحة منها (في الحالتين أنا ضايع لترباس –وخداع- وياها الغيرة ذاتا- بنساك لمحمود تاور...إلخ كما كانت حكمت تجتمع بكل السيدات المهتمات بمجال الشعر تتفاكرمعهن وتقدم لهن النصح. (5) لحكمت يس ديوانان من الشعر هما ( مشاعر) و (أحزان البنات)، في الفترة الاخيرة بدأت صحتها تتدهور شيئًا فشيئًا ولكن وفاة زوجها الصحفي هاشم حسن موسي المفاجئ كان له أثره الفعال في نفسيتها، وهي أم لابنين هما (أحمد وأسعد) ولكن الآن تضاعفت أوجاع وآلام شاعرتنا حكمت يس حتى لزمت الفراش الأبيض بعدد من المستشفيات وهي الآن بمنزلها تعاني من الجلطة وخشونة الأطراف و تقاسي آلاماها بعيدًا عن الإعلام والأضواء ولم تسأل أحد ولم تستجدِ كأنما هي تردد كلماتها (الجرح جرحي براي منو البقاسي معاي).؟