ساقتني قدماي عنوة لأغوص وسط ذلك الزخم البشري الذي احتشد في ساحات موقف جاكسون والموقف الجديد كما يطلقون عليه. ساحات اختنقت، وكادت أنفاسها أن تنقبض، وعراك بشري مستميت من أجل حفنة من قوت تسد الرمق وتسكن أنين جوف خاو غاضب! وسط هذا الحشد ثلة من الشباب أدمنت تجارة الأرض لضيق ذات اليد والعوز، شباب تخرجوا من الجامعات وباءت جهودهم بالفشل بحثا عن عمل حلال يدر عليهم حفنة من الدنانير. بضاعة مكانها التراب: أغذية وملابس، ومشروبات وغيرها كساها الغبار المتطاير من الأحذية المهترئة طبقة سميكة. غبار تناثر في الأجواء ليقتحم ويستقر في صدور تلك الأمواج من خلق الله. وهناك عند مدخل موقف أم درمان الجديد سلاسل من بقايا بشر تمد أيديها الهزيلة تطلب ما يمسح دمعها السخين، بعد أن أنهكها الفقر المدقع، والمرض. وعلمت والدهشة تملأ جوانحي أن هنالك جهة ما تنظم وجود هؤلاء، واضعة لبنات أولى لما يسمى بالاستثمار في التسول. وقع بصري، في ركن قصي على مجموعة من الأطفال تفترش الأرض وتلتحف السماء، فنوت منهم، وتفوح من أفواههم رائحة السبرتو الذي أدمنوا تعاطيه تحملها قطع من قماش حشرت في ثغورهم الجافة فيبلغون قمة النشوة (السلطة) فتغيب عقولهم البكرة. ونتيجة لذلك الإفراز الاقتصادي الاجتماعي الذي سببه الفقر والحرب والنزوح، لجأت بعض النسوة للعمل في مهن هامشية لحاجتهن الماسة، وظروفهم المعيشية ففضلن امتهان (بيع الشاي) ، وكان لهذه المهنة مضار وسلبيات مجتمعية واعتبرها البعض مهنة تخفي في ثناياها المثير الخطر. وأحزنني جدا وأنا أشاهد طالبا وسط أرتال من رصفائه يمسك بيمناه لفافة تبغ، وبيسراه خير الجليس الكتاب وتحدثت ناصحا إياه وعلمت منه أنه قد طرد من المدرسة بسبب عجزه عن سداد الرسوم التي ألغيت. فيا للهول! فهذه مجموعة قليلة من النكبات السلوكية المفجعة التي أصابت مجتمع الخرطوم. فمن المسؤول يا ترى؟ إنها مسئولية الدولة أولا، وتتمثل في معتمدية الخرطوم؛ فعليك أخي المعتمد أن تشمر عن ساعدك وتشهر سلاحك للحد من هذه الأوبئة التي أصابت هذا المجتمع المسلم المسالم. بالدراسة الفاحصة المتأنية بالتشاور مع الجهات ذات الصلة الوثيقة يمكن أن تنقشع هذه السحب القاتمة. ونهئ لجيل الغد مستقبلا مشرقا وطموحا. سرني أن الأخ المعتمد قد حرص كما قال على تنقية المجتمع، فها هي خطوات جادة بدأت في نقل المتسولين والمرضى والعجزة إلى دور ومقار هيأت لتؤويهم وتوفر لهم ما يسد رمقهم ويقل عثرتهم، وفقك الله أخي المعتمد وسدد الله خطاك، ونحن نتوق ونتطلع لعاصمة حضارية خالية من كل ما يلوث مجتمعها من أمراض وأوبئة فتاكة. خبير تربوي