"بلدي" رواية او بوح عميق للشاعر والروائي السوفيتي والداغستاني الراحل رسول حمزاتوف ،تمرد فيه على مدارس وقوالب الفن الروائي لصالح حالة من الوجد والحب لبلاده الصغيرة داغستان التي هي اليوم جمهورية ضمن الاتحاد الروسي. تغزل حمزاتوف في جبال ووديان ومراعي داغستان واغانيها وتراثها وافرط في تمجيد لغاتها المحلية على كثرتها – وكأن اللغة هذه لم توجد الا ليتغنى بها الناس ويذوبون بها حبا وولها في البلد. كل من يقرأ الراوية سيجد نفسه مطالبا من السطر الاول بتحديد موقفه من بلده واجراء ما يشاء من مقارنات بين حالة حمزاتوف وحالته كقاريء ينتمي الى بلد ما في هذا العالم الواسع. تناسى حمزاتوف الخلافات والمطبات التاريخية لبلده واستقلالها الضائع او المضيع ، عملا بمبدا "بلادي وان جارت علي عزيزة – او بلادي وان جار عليها التاريخ فهي عزيزة – ويا لها من عزة. فكثيرا ما يعجز القاريء عن التفريق بين الاتحاد السوفيتي الضخم جدا حينها وداغستان الصغيرة جدا مقارنة بذلك العملاق الجغرافي الذي كان. يفعل حمزاتوف ذلك رغم انه عرف واشتهر كأديب يكتب بالروسية. لكنه اراد لفت الانتباه من خلال هذه الرواية الى حقيقة ترقى الى حد التأكيد على ان المرء لا يكتب بقلمه وانما بوجدانه وذاكرته وما تحمل. هنا بالذات يصطفي حمزاتوف الوطن، يجرده من كل شئ الا ذاته – يقرأه من الداخل ويحوله الى مرايا ينظر من خلالها لنفسه والعالم المحيط على سعته ، ويبرز ذلك عبر سرد جميل ومقارنات اجمل عقدها بين داغستان وبلدان اخرى زارها عبر العالم. قرأت الراوية منذ سنوات، رجعت اليها اخيرا لشئ يخصني، فقد اخذت على نفسي عهدا بنفض ما ران على تفكيري من غبار وافكار واحزان، مبعثها التحولات المفصلية التي عرفها السودان في السنوات الاخيرة. لنميز بين البلد ومصيره ، فالاول ثابت والثاني متحول ينجم بتراكم السياسات في مختلف المجالات – فكيف يتعامل الفرد مع هذا الثنائي الواقف على طرفي نقيض. ليس سهلا اصدار احكام او تبني مواقف عاطفية متسرعة تتجاهل المشاكل وتراهن على نوايا فيها الطيب وفيها الخبيث. حقنني حمزاتوف بجرعات مركزة تصب في مصلحة الثابت وتحث على ضرورة اعادة اكتشافه في اطار لا يبعد عن الواقع ولا يهوم في عالم الخيال. بلدي وبلدك حالة شعورية ووجدانية نعيشها جميعا لكن من حقنا المشاركة في كل ما يتعلق بمصيرها على جميع المستويات – بلدي وبلدك امانة في اعناقنا ومصدر فخرنا - لا نشترط في حضرة الوطن ولا يجوز لنا ذلك ،ولا نستأذن احدا لندلي برأينا او حين نطالب بحماية الوطن وتحصينه ضد اخطاء السياسة ومزايدات الساسة – لا نشكك في نوايا احد، بل نجزم بوطنية كل الاطراف – لكن من واجبنا التشكيك في مآل السياسات ونتائجها. لذلك نغني مع المغنين حين يكون الغناء واجبا وتعبيرا عن حالة ما – وحتما لن نغني في وقت نرى فيه الاخطاء ترتكب والمواقف تتبعثر وتتجاذب في شأن لا يعرف سوى الحسم أي الانحياز للوطن والايمان بسعته وحق بنيه اجمعين في التمتع بنفس الحقوق والالتزام بكل الاعباء المترتبة على الانتماء للارض والتاريخ والمجتمع . ما احوجنا والحالة هذه لجزيرة نقفز اليها من مراكب التيه السياسي والتعصب الحزبي والمزايدة والتذاكي والمبالغة في تتفيه الاخر والتهكم عليه لنعيد اكتشاف ذلكم الثابت أي البلد ، او بلدنا جميعا.