هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته الهذربة لغة هي صوت الحروف المنطوقة تصل إلى المسامع، فإن كانت أوعية لكلام منطوق نثراً أو شعراً وصفت بمحتوى ما تحمل من معان، فهي إما تقرير أو تصريح أو كلام بليغ أو شعر حسن، وإن كانت بلا معنى وصفت بما هي أهله. اصطلاحاً: هذربة أو (هضربة) كما نقول في عاميتنا التي تحيل الذال في أغلب الأحيان ضاداً، والهذربة والهضربة في أسوأ حالاتها تكون للوثة ألمت بالعقل فأصبح يهزي بما لا يفهم ف(الهضربة) في هذه الحالة هذيان. وفي أخف حالاتها تكون محاولات في الإبداع لم تزل في بدايات مدارج الكمال، قال ابن جني يصف رقي المتنبيء إلى القمة السامقة فى دنيا الشعر: "ما زال هذا الغلام يهزي حتى قال شعراً!" أو تكون أدخل في باب الحديث المباح والمزاح وقبل أن تغلب عامية المدن على عاميتنا في الأرياف كان أهلنا يقولون" فلان يهزي ساكت" يطمئنون المبتئس من مقاله بأنه إنما يمزح أو (يهظر) وهي من الهزار وهو فصيح. لكن الهذربة أو (الهضربة) بفعل الحمى أو الهيام الشديد إنما هي ضروب مؤقتة من الذهان. أما المغترب فهو مصطلح يحصره كثير من الناس فيمن غادر البلاد سعياً وراء الرزق. وقد شهدت واقعة في عقود مضت لحسناء تعمل موظفة في إحدى وكالات السياحة والسفر وقد افتر ثغرها عن ابتسامة وضيئة تغالب بها ضحكاً مكتوماً من شاب ضحوك مبتهج بعقد عمل حصل عليه في بلاد الزيت حين أجابها عن سؤالها عن وظيفته بأنه "مغترب". والحسناء محقة في استغراب الإجابة الصادرة عن الشاب فالاغتراب ليس وظيفة ولكنه حالة. فالمغترب قد يكون نجاراً أو محامياً أو طبيباً أو هكذا تمنت الحسناء أن تكون الإجابة. وقد استنكر أحد أقربائي وصفي الموجز لأبيه الأستاذ الجامعي المنتدب للتدريس في جامعة عربية بأنه (مغترب) رغم أني لم أنس تبسم تلك الحسناء. فالمنتدب عنده إن كان طبيباً أو أستاذاً جامعياً أو خبيراً في تخصص ما ليس مغترباً. لكن يصح عندي أن كل من غادر وطنه طائعاً أو مكرها أن يوصف بأنه مغترب لأنه يعيش ذات الحالة والظروف بقطع النظر عن المهنة التي يؤديها. وقد قدر الله لي تذوق هذه الأنواع من الاغتراب جميعاً فجربته قسراً ومختاراً ثم مكلفاً. صحيح تختلف المذاقات شيئاً ما، فالاغتراب القسري يولد المرارات وينمي المواجد على من كان السبب فيه وإن طاب العيش في المهجر لأن من يكرهك على الرحيل إنما يقذف بك في المجهول فأنت كمن ألقي في هاوية ما لها من قرار, فأنت هناك تتلمس طريق العيش من الصفر في مجتمع لا تعرفه ولا يعرفك تلتمس منه عطفاً لم تجده بين أهلك وبني وطنك. والاغتراب الاختياري محفوف بالآمال العراض التي تهون صعابه، بينما اغتراب التكليف تهون صعابه الثقة التي أودعها فيك بلدك لتجمع حيث أنت من المعارف وتجلب من المصالح إليه بما يعود بالنفع عليه كما تدرأ مثلها عنه من الأضرار. لكن الحالة هي الحالة: البعد عن الأهل والأحبة وما ألفت من شجر وحجر ونهر. وهنا تثور المواجع والأشجان. كنا في مقتبل العمر، نعم في ميعة الصبا وشرخ الشباب عندما أكرهنا على الرحيل بعيون دامعة وقلوب أسيفة. كنا قد أكملنا الدراسة الجامعية وتذوقنا(قبض المواهي) المجزية آنئذ على اسكيل (كيو). واتسعت دائرة آمالنا وأحلامنا الصغيرة في عيش هنيئ رغيد وزواج مشهود بأهازيج فتبدد ذلك كله وألفيتنا كمن قذفوا به في الربع الخالي بلا أنيس فأصبح أنيسنا آلة تسجيل نقذف في جوفها كل ما يقع في أيدينا من أثر يمت إلى السودان بصلة وأضحت كل الأغاني والمدائح والأهازيج تبعثر الدواخل هكذا (بدون فرز). هذا بادي محمد الطيب استمعت إليه عبر المذياع أول العهد في منزل صديقنا فلان في حي العشير في ود مدني. وتتداعى في الخاطر صور الحي العريق بأهله الطيبين وحرائر نسائه. وهذا عثمان حسين كنا نراه رأي العين ونحن صبية في حي السجانة وعنئذ يتراءى لك بعين الخيال دكان عمنا سيد وميدان العلمين وجامع الشايقية وطاحونة الديزل القديمة ذات الصوت المجلجل وتنزلق الذاكرة إلى حسان تعلق بهن القلب في منعرجات المراهقة وشقاوات وخناقات صغيرة . أما صديقنا(تيراب) فيغوص عميقاً في دواخله وينسى من حوله من الناس مع غناء عبد الرحمن عبد الله (أحمل الشوق للمعلم) فيخال نفسه في سوق (أب جهل) وحي القبة في الأبيض أو في واحة بارا الخضراء وكم ضُبط ودمعة حرى تتحدى جَلَده فتسيل بهدوء على خده فيتمتم محدثاً نفسه (الله يلعن الكان السبب). جئنا ولكل منا فنانه المفضل فأصبح كل المغنين عندنا في المهجر سواسية لا فرق بينهم. حتى آيات الكتاب الحكيم نستمزجها أكثر بأصوات السودانيين من القراء: صديق أحمد حمدون وأحمد بابكر وعوض عمر الإمام ومحمد نور. أنستنا فواجع الغربة خصوماتنا في السودان بل همومنا ومنغصات الحياة فيه وهي أكثر من أن تحصى. وتبدل الحال بعد حين فطاب العيش في المهجر ولم تطب الحياة فالذي اقتنى سيارة فارهة تمنى لو أنها كانت له في السودان يشرك أهله وجيرانه وأحبابه التمتع بها وكذلك حال من أثث بيتاً جميلاً هناك تمنى لو طار به إلى هناك حيث العشيرة والأهل. وصدق حاتم طئ وهو يوبخ امرأته البخيلة (ماوية): أماوي إن المال ليس بنافع إذا لم ينل منه أخ وصديق! وطيب العيش ليس كطيب الحياة فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان وقد روى أصحاب السير أن عظيماً من عظماء العرب أسلم وعندما كان يطوف بالبيت العتيق وطأ رداءه رجل من عامة الناس دون قصد منه فصفعه فشكاه الرجل إلى عمر الذي قال له لا سبيل أمامه إلا أن يتلقى صفعة من الرجل على وجهه فغضب الوجيه وقال لعمر: إذن أتنصر! قال عمر: إذن أقتلك! فهرب الرجل إلى بلاد الروم متنصراً فأفردوا له قصرا بحشم وخدم. لكن غلبه الحنين إلى مراتع صباه في بادية العرب وقال شعراً باكياً تمنى فيه لو "كان ثاوياً في ربيعة أو مضر!" وجئنا مرارا إلى البلاد زائرين لكن الحياة راقت لأكثرنا في المهجر فأسكنا السودان في دواخلنا وجردنا أهله من عيوب البشر وفضلنا أن نراه كالمثال وكالجنة دون أن نقبل العيش فيه كأن عقولنا الباطنة تخشى على الصورة الزاهية التي رسمناها له في دواخلنا من أن تهتز. وظل الذود عنه في المحافل بعض ذلك الحنين. الحنين إلى مناقب أهله في المروءة والشجاعة والكرم والغيرة على الأرض والعرض ورفض الضيم والمحاذرة من أن يصير إلى هوان أو يتسرب من بين أيدينا. حكى البروفسور عبد الله الطيب عن رجل من أهلنا المحس أقام في بريطانيا وتزوج من أهلها احتفى بهم حفاوة بالغة عندما زاروه وهم طلاب علم في بريطانيا ونادى على صغاره للسلام عليهم فسألوهم عن جنسهم فقالوا "نحن ويلش" وهي صفة سكان منطقة ويلز في بريطانيا فصاح أبوهم مستنكرا" جيسيس! بل أنتم محس!" هكذا كنا: نحن هنا وهناك. والشاهد في كل ذلك هو أن المغترب بحكم الاحتكاك بأناس ينتمون إلى ثقافات أخرى يركن إلى ما نشأ عليه من الثقافة السودانية ويجد فيها امتيازاً على غيرها من الثقافات وليس بالضرورة أن يكون الأمر دائما هكذا ولكن هذا تحيز مغروس في البشر. وأفضل الدروس في الغربة أنها تعلمنا احترام الاختلاف في الألسن والألوان والمعتقدات وأن الناس جميعاً من ثمرات التثاقف في بيئاتهم المختلفة. ولأن الغربة حالة مشحونة بالعواطف تغلب فيها العاطفة على العقل, فالمغترب يريد أن تظل الصورة الذهنية الزاهية في وجدانه باقية لا تشوبها الشوائب ولا تذهب ببريقها عاديات الأزمان وذاك مطلب بعيد المنال. ولو أصاب العرج الواحد منا بعد طول التسفار وقساوة الأقدار فعاد إلى (مراحه) يلتمس الدفء في سربه, فقد يجد الحال غير الحال وأن الزمن مثلما ما يعبث بنضارة أجسامنا بوهن العظام وابيضاض الشعر وتغضن الإهاب فإنه يفعل الشيء ذاته بالموروثات وكريم الأخلاق في الوفاء والعرفان والصدق بل يفعل بها الأفاعيل. وأقسى ما يصيب الحنين أن يغدو كالأنين. وإذا بلغ الحال هذا المآل لم يبق إلى التأسى بأقوال من قبيل ما قال الجواهري رحمه الله: تروح على مثل شوك القتاد وتغدو على مثل جمر الغضا وتطوي الضلوع على نافذ من الصبر يُدمي كحز المُدى!