اسلتقى الجد "ديشاب" الكبير على سريره يرقب النجوم في سماء النوبة الصافية إلا من سحابات بيضاء تأتي أحياناً من "قبلي" وأخرى من "بحري" لا تحمل في جوفها مزناً.. فالمطر هناك نادر وغير مرحب به لأن سقوف المنازل من جريد النخل غير مهيأة في هذا الفصل من العام الذي يصادف انتضاج البلح الذي هو زادهم طول العام ومحصولهم النقدي.. ومونة "الدكاي" الذي يحلو لهم الأنس والغناء في مجالسه العامرة بما يسمى بغناء "النم" وهو واحد من أشكال الغناء عند النوبيين أقرب إلى الدوبيت من إيقاعاتهم الأخرى، جدنا ديشاب "شالتو نومة" وزاره في الحلم طيف يحمل بيد لوحا وبالأخرى طمبورا، فسارع لخطف الطمبور فصار الغناء في ذريته "لي جنى الجنى" حتى وصل إلى حفيده ميرغني.. واشتهر ديشاب الجد في المنطقة بابتدار المطولات الغنائية التي تغنى بالعربية مثل أغنية "الريلة" و"القمر بوبا".. ابتدرهما ديشاب وسارت بهما الركبان يضاف إليها مكان ما تحطان حتى وصلت ديار الشايقية ونسبتا إلى الشاعر إسماعيل حسن.. آخر الذين أضافوا إليهما.. يقول أحد المغنين الشعراء من فصحاء النوبية وأظنه الهرم محمد وردي: أيها الوطن، محبك الذي يتغنى بك من يتمرغ في ترابك ولدك الذي لا ينام هل هو جاء فأته ساعياً أيها الجبل وأنت يا طين الجزيرة، أشرق فرحاً يا "ساب" الذي يتوسط البلد- أشهق ثمراً ويا مضغة الحزن الحائرة في الجوف كوني لوناً آخر في الأحشاء وثلجاً أبيض متضاحكاً على وجه "نلوه" أيها المركب تداع شرقاً وغرباً وابدأ غناءك أيها العاشق ويا صبية.. ابتدعي الاندلاق في الرقص. ويرى ديشاب أن نصوص الغناء النوبي متقدمة في شاعريتها لكنها لم تختبر بالآلة النقدية وقد جاءت موافقة للمزاج النوبي لا العربي وقد أفاد منها مغنون سودانيون يغنون في العربية موسيقياً وبناءً لغوياً وهذا ما جعل الشاعر المغني خليل فرح "وله شعر نوبي" يغنى غناءً مختلفاً عما كان سائداً في زمانه إيقاعاً وبناءاً شعريا» كتب الحفيد ميرغني ديشاب الأغنية برواية وسط السودان تلقفها المطرب الكسلاوي المعتزل محمد مطر فأمطر بها مدينة كسلا.. ود مطر كان طرباً لو أراد أن يسير في درب الغناء لكان واحدا من أكبر الفنانين الذين اعتادت أن ترفدهم حديقة العشاق إلى المركز ولكنه آثر أن يكون سلفياً بجلباب قصير ولحية وأرادها توبة نصوحة من الغناء فانسرب غناؤه للعاصمة يغني بعضه محمود عبد العزيز وغيره من الفنانين الشباب، ديشاب نفسه تأثر بشيخه كجراي.. كلاهما لا يرحبان بشعرهم الغنائي رغم أن غناء كجراي صدح به محمد وردي وكفى. في جلسة ضمتني مع الأستاذ وردي في الحديقة الصغيرة أمام منزله، يقاطعها من وقت لآخر مكالمات هاتفية ترد للأستاذ فيرد عليها بنوبيته الطلقة مع ضحكات مجلجلة. هاتفني في تلك اللحظة صديقي ميرغني ديشاب فقدمت الهاتف للفرعون وطلبت منه التحدث مع ميرغني بالنوبية دون اعتبار "للسوداني" "اللي هو أنا" فهؤلاء النوبيون يطلقون لقب سوداني لغير الذي من ملتهم.. واندلق الرطين وبانت الراحة والسعادة في وجه الفرعون.. بعد انتهاء المحادثة، حدثني وردي بإعجاب شديد عن محادثه "اللي هو ديشاب" وقال لي "دا واحد من أفضل المتحدثين بالنوبية الذين سمعتهم". بعد ذلك بفتره جاء ديشاب إلى الخرطوم بدعوة من منتدى دال الثقافي لحضور تدشين كتاب الفردوس المفقود بحضور مؤلفه هيرمان بيل الألماني الأصل الأمريكي الجنسية الذي كان توثيقاً حياً بالصور لأرض النوبة.. في ذلك الحفل التقى محمد وردي بميرغني ديشاب لأول مرة وكان حريصاً على لقائه مرة أخرى وقدم له الدعوة للأنس بمنزله وكلفني بالتنسيق ولكن أظن أن صديقي الحيي ديشاب هو الذي ساهم في فشل اللقاء ولم يقنعني وقتها بأعذاره التي حملتها لحيائه الشديد وأدبه الجم ولكنه ظل آسفاً، لتفويت فرصة هذا اللقاء الذي لم يتم. دفعت مجموعة دال مبالغ ضخمة للمصور هيرمان بيل والمعرب د. محمد جلال هاشم في الوقت الذي يرى البعض أن هناك الكثير من الكتب النوبية كانت أولى بإعادة نشرها مثل "السد العالي ومأساة النوبيين" للكاتب النوبي الراحل محيي الدين محمد طاهر وكتاب "الشمندورة" وهو رواية صدرت من دار نشر مصرية للكاتب النوبي الراحل محمد خليل قاسم.. ولكن دال فعلت خيراً "أخيراً" بطباعة كتابي ميرغني ديشاب اللذين صدرا مؤخراً عن منتدى دال الثقافي. عندما كانا في حلفاالجديدة، ديشاب وكمال عبد الحليم، قدما خلال وجودهما في شرق السودان خدمة كبيرة للثقافة النوبية واستطاعا تقديمها بوجه مشرق، كتب خلال تلك الفترة كمال حليم مسرحيته الشعرية "دهب ودهيبة" وأغان كثر باللغة النوبية.. أما ديشاب قد استوقفني في مرثيته لأستاذه حجازي محمد حسن التي جاءت مزجاً مدهشاً بين العربية الفصحى واللغة النوبية "الفصيحة" وحجازي لمن لا يعرفونه هو نوبي شامخ من مواليد وادي حلفا عام 1932م، درس في مصر وعمل في حقل التعليم معلماً، كان ديشاب أحد تلاميذه، كان يحمل فكراً متقدماً إذ طور التجربة التعاونية بمنطقة حلفاالجديدة كان ساعده الأيمن في هذا العمل العظيم "حسن مهدي" وقاما بتمليك ست وعشرين قرية بوادي حلفا آليات زراعية مثل التراكترات والحاصدات وأنشأت جمعيتهم مطاحن حلفاالجديدة التي كان مشروعاً أهلياً ناجحاً.. ولكن.. ولكن.. خرج حجازي من السودان معارضاً في مصر وظل بجانب محمد وردي.. رحل حجازي إلى الرفيق الأعلى عام 1995م، وجاءت مرثية تلميذه ديشاب عرفاناً له كمناضل وكقائد شعبي نوبي فطغت اللغة النوبية في خيال الشاعر وكانت الأبيات التي بالنوبية في نفس خط المرثية التي كتبت بالعربية بعنوان مرثية جيل ( حجازي) أيها الشاعر الناسج الآن بردته من نجوم الكتف أشعل الوقت في الناعسات القصائد. وقل لن تموت بأحزانها دون أن ترتجف قاسم النار بهجتها في التبرج.. خلاخلها والقمر سطوته في الفضاء الذي فيك أوله، لا تخف أرهم في يديك الحجر. يوصف الشعر في رقته بالرحيق وفي سكره بالمقاتل فيا حجر الشعر في رق أحزاننا كن رحيقاً وقاتل ما الذي يفعل الشعر لو صار حلواً واحداً في التثني وواحدة في السنابل!! "مقطع بالنوبية" فقم من حيث قام الشعر.. قم من حيث قام الشعر نخلاً تزرع الحناء، نداً يغسل الحجر المرمي في فضاء الماء أنت رحيقنا المأمول والشعر الذي ينسل سيفاً في لهاة الجرح "مقطع نوبي" فقم من حيث قام الشعر غال بعض الشعر غزل الغازل وبقي الباقي بمطل الماطل قتلتني غير أني واقف أتملى من مكاني قاتلى يا زماناً فيه من فرط الخنا لبس المفعول ثوب الفاعل "مقطع نوبي" فقم من حيث قام الشعر مكتوب أنت على كفي.. حجراً بالخط الكوفي حجازي مكتوب أنت في وجه "المطحن" في القمح الباقي في ماء الخزان الشارد من طمي الخزان مكتوب أنت على كفي حجراً بالخط الكوفي "خاتمة بالنوبية" لله درك يا صديقي المبدع النوبي الشامخ المهموم بتراث أمته وثقافتها السليبة.. وأحمد لك أن جعلتني كاتباً ولهذه قصة طويلة.. في زمان مضى لما تجالسنا وتآنسنا هو الذي دعاني للكتابة- جاءت دعوته خلال الجلسات التي ضمتنا- كجراي- مبارك أزرق- كمال حليم- بابكر محمود النور وغيرهم من ضيوف أولوس، وكان الحديث ينساب مدراراً سلسبيلاً.. وكان يصر علي بقوله "إنت ما تكتب" بضم التاءالاولي والتاء الثانيه وهي مخاطبة مباشرة من ديشاب بلغة الراطنين من أمته وفي الفصحى صحيحة مائة بالمائة.. دعاني صديقي الرطان البليغ للكتابة وعملت بنصيحته.. عندما صرت نائباً لرئيس تحرير صحيفة "القوات المسلحة" قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، حرصت على تحرير صفحة بعنوان "ثقافة وفن" برغم أعبائي الإدارية نائباً لرئيس التحرير.. صديقي الصحفي الشامخ د. محمود قلندر الذي هو واحد من الذين حببوا لي العمل الصحفي- عندها لم يكن في الساحة ما يثري "الثقافة والفن" غير مخرجات أولوس ورابطتي الجزيرة وسنار والهدهد والقندول وكلهم خرجوا من عباءة "أبادماك" التي كنت أحد مؤسسيه.. وحتى الآن في العدد الأسبوعي ب"السوداني" أعتمد أساساً على مشاركة أولئك المبدعون من أصدقاء الزمن الجميل ومنهم صديقي النوبي المبدع ديشاب.