هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته الحديث عن الكِبَر وعلاماته لا يُملُّ عند من أوشك أن يُطرد من زمرة الشباب بعد أن وسعَتْه طويلاً ب "لجان الرأفة" وتوسُّل الأكبر سنَّاً الذين يروقهم بدورهم أن لا يُبارحوا ريعان الكهولة بالإصرار على إبقاء الأصغر سناً مباشرة في أواخر الشباب. أنت بالفعل شاب إذا كنت تجد من يدلِّلك من الأعمام والأخوال والعمّات والخالات حتى إذا استبدت بك أكثر من علامة للكبر، ونتجاوز عن نظرة الآباء والأمهات فهي أقرب إلى أن تحشر الأبناء مهما تقدم بهم العمر في بواكير الطفولة لا أواخر الشباب. وكان صديق جاوز الأربعين يتوسّل إلى ما بقي من آثار الشباب في هيئته لتشفع له فلا ينجده إلا قليل منها، وعندما يعزّ عليه أن يجد في ذلك القليل البرهان الكافي الذي يبلّ ظمأ نفس توّاقة إلى ريعان الفتوّة وليس نُتفاً من آثارها الباقية، عندها يعمد إلى بعض ما كان يستنكره من أقوال أبويه في عقود خلت عن بعض أقربائهم :" سِغيِّر.. لسّه في الأربعينات"، فيجد في مثل ذلك الكلام الحاضّ على السخرية في زمن ما مبعثاً على الاطمئنان في الزمن الذي تلاه. في سياق قريب ظل بعض الأدباء العرب يشير إلى جيل ثمانينيّات القرن الماضي من الشعراء وكُتّاب القصة بوصفهم يمثلون تيار الشباب في الأدب العربي، وظل ذلك الوصف لصيقاً بذلك الجيل قرابة العقدين وأكثر حتى استبدّت علامات الكبر ببعض أفراده فأيقظت بعض الحانقين الواقعيِّين للتنبيه بأن زمراً من الكتّاب من أجيال لاحقة تنتظر فرصة للظهور وقد أوشك بعضها أن يتخطّاه الشباب. "يا عجوز".. إحساسك وأنت تسمعها لا يُمكن أن يُوصف سوى بالانزعاج حتى إذا كانت من باب المزاح.. دع عنك المكايدة، فليس من سبيل إلى مداعبة أحدهم بذلك الوصف إلّا إذا كان عجوزاً بالفعل أو أوشك الشباب أن يفارقه إلى غير رجعة. أما "عجّزنا" فهي حيلة استباقية تحمل من استجداء الطمأنة بالنفي أكثر مما تحمل من شجاعة الإقرار بالحقيقة، فالكِبَر بعلاماته البادية أو حتى المستترة لا يحتاج إلى تنبيه الآخرين لرؤيته، فضلاً عن غياب الداعي الوجيه في ذلك التنبيه ما خلا الطمأنة المشار إليها أو المواساة في الحالات النادرة التي تتجرّد فيها نية الاعتراف من استجداء النفي. وحيث أن كثرة مراجعة الأطباء من أظهر علامات الكِبَر، فإن مستجدياً للشباب لن يجد بُغيته عند طبيب بسهولة، فالأطباء من كثرة ما رأوا من تهالك الجسم البشري وذبول النفس الآدمية لم يعد الكِبَر بالنسبة إليهم فكرة مستهجنة قدرَ ما هي حقيقة لا مناص منه، بل هو أكثر من ذلك سبب وجيه لتفسير ما يعجز بعض أولئك الأطباء عن تشخيصه من الأمراض، فأحدهم يقول عن سيدة مسنة حار زملاؤه في تشخيص حالتها :" إنها مصابة بالشيخوخة"، وآخر يواجه مريضته الشابة بأن عليها أن تتقبّل آلام الظهر بوصفها أحد الأعراض التي تظهر عند مراقبة منحنى صحة الإنسان وهو يبدأ في الانحدار بعد منتصف العمر، وثالث يقول لمريضه الشاب بأن آلام الرقبة التي يعاني منها إنما هي بسبب "كثرة الاستعمال".. ما يعني ضمناً استنفاد العمر الافتراضي للرقبة وبقية أعضاء الجسم تبعاً لذلك التحليل. وإذا كان مشهوراً عن المتنبي بيته:" خُلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصبا * لفارقت شيبي موجَع القلب باكياً"، فإن عبقرية المتنبي في تقصِّي البواعث النفسية أكثر جلاءً في قوله:" ولقد بكيت على الشباب ولمّتي * مسودّة ولماء وجهي رونق، حذراً عليه قبل يوم فراقه * والمستعز بما لديه الأحمق"، ففي ذلك استباق نفسي لطيف وتجاوز لقول أبي العتاهية النادم على جرم لم يرتكبه حيث لا ينفع الندم:" عريتُ من الشبابِ وكان غضّاً * كما يَعرى من الوَرَقِ القضيبُ، ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً * فأخبرَهُ بما فعلَ المشيبُ"، رغم ما لا يخفى في قول أبي العتاهية من صورة بلاغية رائعة وسبك لغوي محكم. وقد ظللت على المستوى الشخصي مع التعبير عن الكِبر شِعراً معجباً أيّما إعجاب ببيت سويد بنُ أبي كاهل:" كيفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَ ما * لاَحَ في الرَّأسِ بَيَاضٌ وصَلَعْ"، وأجمل ما في بيت سويد أنه ليس شكوى من الكِبر ولا استباق للحسرة عليه يوم فراقه، وإنما اعتزاز صادق بأفضاله المنسية. وبقيت أنتظر من علامات الكبر ما يأذن لي أن أستشهد ببيت سويد، حتى إذا لاح بعض منها ( أو كثير؟) وددت لو أنني أبدلت ضمير المتكلِّم بضمير المخاطَب وعالجت الوزن ليتسنّى لي أن أمتدح غيري في اطمئنان برجاحة العقل يسبغها عليه استفحال علامات الكِبَر.