محمد أحمد بشيري مامعي إلا قفاي كان رجل ببغداد يعرف بابن المغازلي يتكلم على الطريق ويقص على الناس أخباراً ونوادر ومضاحك، وكان حاذقاً لا يستطيع من يراه أو يسمع كلامه إلا الضحك. قال: وقفت يوماً في خلافه المعتضد على باب الخاصة، فحضر حلقتي بعض خدم المعتضد، فأخذت في حكايتهم، فأعجب خادم بحكايتي- وشغف بنوادري ثم انصرف عني، فلم يلبث أن عاد إلي وأخذ بيدي وقال: إني لما انصرفت عن حلقتك، دخلت، فوقفت بين يدي المعتضد أمير المؤمنين، فذكرت حكايتك وما جرى من نوادرك- فقلت يا أمير المؤمنين على الباب رجل يعرف بابن المغازلين يضحك ويحاكي، ولا يدع حكاية إعرابي وتركي ومكي ونحوي وزنجي وخادم إلا حكاها، ويخلط ذلك بنوادر تضحك الثاكل وتصبي الحليم، وقد أمرني باحضارك، ولي نصف جائزتك، فقلت له وقد طمعت في الجائزة السنية. يا سيدي أنا ضعيف وفقير- وقد من الله علي بك، فما عليك أن أخذت بعضها، سدسها أو ربعها، فأبي إلا نصفها فطمعت في النصف، وقنعت به، فأخذ بيدي وأدخلني عليه فسلمت وأحسنت ووقفت في الموضع الذي أوقفت فيه، فرد على السلام وقد كان ينظر في كتاب، فلما نظر في أكثره أطبقه، ثم رفع رأسه إلي وقال: أنت ابن المغازلي؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين قال: قد بلغني إنك تحكي وتضحك، تأتي بحكايات عجيبة، ونوادر طريفة قلت: نعم يا أمير المؤمنين، الحاجة تفتق الحبلة أجمع بها الناس، واتقرب إلى قلوبهم بحكايتها التمس برهم، وأعيش بما أناله منهم، قال: فهات ما عندك وخذ في فنك فان أضحكتني أجزتك بخمسمائة درهم وان لم اضحك فما لي عليك؟ فقلت ما معي إلا قفاي فاصفعه ما أحببت وكم شئت وبما شئت!! فقال لي قد أنصفت إن ضحكت ملك ما ضمنت وإن انا لم اضحك صفعتك بهذا الجراب عشر صفعات. فقلت في نفسي: ملك لا يصفع إلا بشئ خفيف هين، ثم التفت واذا أنا بجراب آدم في زاوية البيت- فكررت القول لنفسي ما اخطأ حذري ولا أخلف ظني وما عسي أن يكون من جراب فيه ريح!! إن اضحكته ربحت، وإن أنا لم أضحكه فامر عشر صفعات بجراب منفوخ هين. ثم أخذت في النوادر والحكايات- فلم أذع حكاية أعرابي ولا نحوي ولا قاض، ولا عبارة ولا نادرة ولا حكاية إلا أحضرتها وأتيت بها حتي نفد جميع ما عندي، وتصدع رأسي، ولم يبق ورائي خادم إلا هرب لما استفزهم الضحك، الا أمير المؤمنين فقد ظل ساكناً. فقلت قد نفد والله يا أمير المؤمنين مامعي، وتصدع رأسي وذهب معاشي، وما رأيت قط مثلك- وما بقيت لي الا نادرة واحدة- فقال هاتها فقلت: يا أمير المؤمنين وعدتني أن تصفعني عشراً وجعلتها مكان الجائزة فاسألك ان تضعف الجائزة وتضيف إليها عشراً، فأراد أن يضحك فاستمسك، ثم قال نفعل: يا غلام خذ بعده، فأخذ بيدي، ومددت قفاي، فصعفت بالجراب صفعة فكأنما سقط علي قفاي قلعة، وإذا فيه حصي مدور، كأنه صنجات فعفصت به عشراً كادت أن تفصل رقبتي وينكسر عنقي، وطفت أذناي وقدح الشعاع من عيني، ولما استوفيت العشرة صحت: يا سيدي نصيحة، فرفع الصفع عني- فقال ما نصيحتك؟ قلت يا سيدي إنه ليس في الدنيا أحسن من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني عليك نصف هذه الجائزة على قلتها أو كثرتها، وأمير المؤمنين أطال الله عمره بفضله وكرمه قد أضعفها- وقد استوفيت نصفها وبقي لخادمك نصفها. فضحك حتي استلقي واستفزه ما كان قد سمعه مني أولاً وتحامل له وصبر عليه، فمازال يضرب برجليه ويمسك بمراق بطنه حتي إذا سكن ضحكه.. ورجعت إليه نفسه.. قال: يا غلام علي بفلان الخادم- فأتي به- وكان طوالاً فامر بصفعه فقال: أي شئ قضيتي وأي جناية جنايتي؟ فقلت له هذه جائزتي وأنت شريكي وقد استوفيت نصفها، وبقي نصيبك منها- فلما أخذه الصفع وطرق قفاه الصافع أقبلت عليه أقول: أقول لك إني ضعيف فقير وشكوت إليك الحاجة والمسكنة وقلت لك لا تأخذ نصفها لك سدسها، لك ربعها وانت تقول ما أخذ إلا نصفها- ولو علمت أن أمير المؤمنين اطال الله بقاءه جوائزه صفع وهبتها لك كلها. فعاد إلى الضحك تكاذب أعرابيان! فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي، فاذا بظلمة شديدة غيمتها حتي وصلت إليها، فاذا قطعة من الليل لم تنتبه، فمازلت أحمل بضرسي عليها حتي أنبهتها فانجابت. فقال الاخر: لقد رميت ظبياً مرة بسهم، فعدل الظبي يمنة فعدل السهم خلفه فتياسر الظبي فتياسر السهم خلفه، ثم علا فعلا السهم خلفه، وإنحدر فانحدر خلفه، حتي أخذه. حاشية: نرجو أن ننوه بأن هذين الأعرابيين قد وصلا مرحلة من الفشر لم يسبقهما أحد بمقياس عصرهما.. ولكن الكاذب الثاني كان متقد الفكر.. حاد الذكاء متطلعاً إلى المستقبل البعيد، حيث أنه وصف ما تقوم به صواريخ سام السوفيتية في عصرنا هذا.. او تفعله الصواريخ الذكية عموماً وهي تلاحق أهدافها.