هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته فكري أبو القاسم: يسعدني جداً الأديب القوي في آدابه، العميق في أفكاره، صاحب الدم الحار النوبي الكوشي فكري أبو القاسم، وعندما يأتي لزيارتي يملأ جلستي فكراً واعياً وفهماً ناضجاً، وعندما حادثني عن كتاب له عنوانه "أوراق مناضل نوبي" إعتقدت جازماً أن هذا المناضل هو فكري أبو القاسم نفسه فهو حتى عندما يكتب كتابة موفقة تتلكأ معه جهات الإختصاص في الموافقة علي كتاباته وأتدخل هنا طالباً له الموافقة حتي يكون هذا دليلاً على حرية الرأي والترحيب بالرأي الآخر، فالسلطة دوماً هي الرأي وأي أحد عداها هو الرأي الآخر، وقد فاجأني بمسودة كتاب عن مناضل نوبي آخر هو صالح عثمان رجل الصمود في أرض النوبة الذي بقي في موطنه النوبي حتى النفس الأخير، وعندما هاجر كل الناس من "أرقين" أصر أن يبقى منفرداً في طول وعرض الضفة الغربية من وادي حلفا حتى وافته المنية في أرض النوبة أرض الذهب كما يعني إسمها، وعندما ذهبت أرض الذهب من التاريخ، بقي هو حتى رقد مستريحاً، وبكته الرمال والرياح والنخيل والجبال والجروف والوديان والطيور والقماري، والنخيل الباسقات ذو الطلع النضيد، وديوك النوبة ودجاجها الهادئ، وبطها الأنيق، وأوزها الجميل، وأراد فكري أن يعيد قضية المناضل النوبي إلينا، وقد صار كما قال عنه إبراهيم دهب حسنين، فكر كل بلاد النوبة، يحمل أفكارهم ويتألق بينهم فكرياً، وكان المناضل النوبي الذي ظل صامداً بعد التهجير في القرية مع زوجته المخلصة وكلابه الأوفياء الثلاثة، الذين في قامة كلب أهل الكهف، قد قال: لابد من العمل الجدي لإقناع أهل أرقين للعودة إلى موطنهم، وهذا في إعتقادي هو الأمل المنشود، لإسترداد الفردوس المفقود، وقد بدأ الأمل قريباً في إقتراح تقدم به الأب الدكتور القمص فيلوثاوس فرج، عن تأسيس ولاية حلفا العتيقة، والإقتراح مقدم لرئيس جمهوريتنا عمر حسن أحمد البشير، وليس رجلاً سودانياً يقدر أن يحقق هذا الحلم سواه، وسوف يُفرح هذا الحلم الذين تركوا العالم من رجال حلفا، والذين تركوا حلفا القديمة ولم يزل الأمل يعاودهم في إعادة بناء هذه المدينة العظيمة فخمة متحضرة، وقد بدأ المهرجان النوبي تأصيلاً لفكرة العودة إلى حلفا لكي تفرح عظام الموتى وتبتهج أفئدة الرجال والنساء الذين حتى الآن يعانون الهجرة التي فرضت عليهم، ويتوقون إلى فردوسهم المفقود. صالح المناضل: وصالح عثمان كتب العديد من الأوراق، يرسم فيها مشروع المستقبل، وقد كتب عنه فكري أبو القاسم متسائلاً: من أين يستمد عشقه للأرض؟ ويجيب فكري نفسه، من حقيقة كونية مغروسة فيه يصورها بهذه الأبيات: قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا ديار بها حل الشباب تمائمي وأول أرض مس جلدي ترابها وشعار المقاومة عند هذا المناضل الشريف يقول بالصبر تستطيع أن تجد ما تريد، ونموذج الصلابة عنده كان في معاناة أبطال الثورة الجزائرية، وحلم الثورة عنده كان في منطقة نوبية جديدة حول البحيرة، أما مخاوفه من التهجير فقد كانت في تشتيت النوبيين بغية تذويهم، وأقوى ما في تجربته ليست في تلك النبوءات التي تحققت بل في أنه قرن القول بالفعل وأنزل حلمه إلى أرض الواقع، ولقد رحل عن العالم بعد أربع سنوات من كتابة مذكراته، وهو الآن الرمز الأول للمقاومة ونبراس العودة للتعمير. ولا يخلو كتاب أوراق مناضل نوبي من الوصف الشيق الذي دبجه قلم فكري أبو القاسم وهو قلم حر وجريئ، وفي الكتاب الأدلة العديدة على جمال أرقين التي أحبها صالح ورغب أن يموت في ترابها ورمالها حتى إنتزعوه بالقوة منها وهو راقد علي رمالها يبكي بكاءاً مراً، وتؤكد شهادات الأهل والأحباء كيف كان صالح عثمان مجاهداً في ميدان التعليم، عاشقاً لتراب أرقين، حتى أنه رقد على الرمال كمن يحتضن الأرض كلها وغرس يديه حتى غارت في الرمال وظل يلثم الرمل والدموع تنهمر من عينيه، وكان يقول إن مياه النيل مذاق ودواء، وفي عام 1962، قبل الفيضان المقصود أو الإغراق لوادي حلفا عام 1964م: إن كل ما يمضي يقربنا من النهاية الأليمة نهاية البلاد التي ستستقر في أعماق النيل!: النيل الذي عبده أجدادنا منذ عشرات القرون، لا لعذوبة مائه ولا لخيرات الأرض التي كانوا ينبتونها بمائه فحسب، وإنما كانوا يعتقدون أن مياه النيل وما يحمله من طمي كل عام فيه شفاء ويتزودون من المياه المعكرة كل عام ويكتسبون المناعة ضد الأمراض وإلى وقت قريب كان علاج الصداع والحمى بطمي الفيضان اللزج تلطخ به الجبهة والأصداغ فيشفي من الصداع وفي حالة الحمى يلطخ الجسم كله فتنزل الحرارة وتزول الحمي. وكان يؤمن بسحر أرقين مدينته النوبية الجميلة، ويعتز بشعر الشاعر النوبي علي صالح داؤود الذي قال: كيف أنسى على رباك غراماً كنت أرعاه في الضحى والأصيل كم عدونا على التلال حفاة همنا اللهو في الهواء العليل وأنحدرنا على النواعير نرنوا وهي تشدوا بكل لحن جميل وأضطجعنا على السواقي رقوداً نرشف الماء رشفة التقبيل وكانت ذكرياته أن: كل بيت أطباقه حاكيات لصليب من عهد نجل البتول، وفي هذا ذكرى للأيام أو بالأحرى الأعوام التي تزيد عن الألف والتي كانت كل البيوت بيوت تؤمن بالسيد المسيح مخلصاً وفادياً، حتى إنه وبعد ترك المسيحية ظل صليب نجل البتول يتألق في أطباق في واجهة كل بيت حلفاوي. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته